هل الليبرالية قيمة مطلقة عليا ؟
بسم الله والحمد لله وحده ، أما بعد ..
أود أن القي الضوء في هذا المقال على قيم الليبرالية الكبرى التي هي أولوية حقوق الفرد والمصلحة الشخصية والملكية الفردية في حالة إذا ما كانت الحكومة المصرية تتبناها وتزرعها في عقول وقلوب مواطنيها ، ثم وقع أن اضطرت الدولة للدخول في حرب مع دولة أخرى ، فكيف ستبرر الحكومة الليبرالية للمواطنين دعوتها إياهم للخدمة العسكرية ؟ وما هي العقيدة القتالية التي سيتم غرسها في جنود الجيش النظامي أو المواطنين المتقدمين للخدمة العسكرية ؟
فالتصور الليبرالي للمجتمع المدني هو كونه لون من التنظيم الاجتماعي تحتل فيه المصالح الشخصية للفرد مكان الصدارة سابقةً الدولة التي يتم تقليص دورها إلى أقصى حد يمنعها من التدخل في حرية الفرد في التصرف في ممتلكاته ، وتكون حماية هذه الممتلكات والمحافظة عليها ضد التلف والضرائب الباهظة والقيود التجارية في صدارة أولويات النظام السياسي . فكيف ستدعو الدولة مواطنيها للمشاركة في الحرب ، هل ستقول لهم: قاتلوا للحفاظ على أنفسكم وممتلكاتكم الشخصية ؟ ألا يجعلها هذا تقع في إحراج منطقي ؛ إذ تدعو الناس للحرب التي قد يفقدون فيها أرواحهم وممتلكاتهم أو قد يصابون بعاهات أو إعاقات دائمة أو إصابات نفسية وعضوية .. إلخ .. لأجل سلامتهم وممتلكاتهم الشخصية ؟ أليس هذا هو السخف بعينه ؟! ألا تجعل هذه الدعوة الحكومية المواطنين يتفننون في الفرار من الخدمة العسكرية بدلاً من الانخراط فيها ؟ فإنه إذا كان غاية الحرب هي الحفاظ على الثروات والملكيات الفردية ، فهناك العديد من الوسائل التي يمكن عن طريقها المحافظة على هذه الثروات والملكيات دون اللجوء إلى الحرب ، وسوف يجب عندئذ أن نطالب بحمايتها لا أن نضحي بها . في هذه الحالة ستكون الحرب هي الخيار المستحيل للحكومة الليبرالية ؛ الخيار الذي يجب عدم بلوغه وبذل كل غال ونفيس من التنازلات للأعداء حتى تتفاداه .
وعلى الجانب الآخر ، فإن الفرد عندما يقاتل في سبيل الله أو الوطن أو المجتمع ويبذل حياته وممتلكاته رخيصة في سبيل هذا ، فإنه في هذه الحالة يبرهن على حقيقة أن هناك قيمة أسمى وأعلى من قيمة الفرد وممتلكاته ، وأنه في ساعة الجد فإن كل ما تنادي به الليبرالية من قيم وحقوق للأفراد يقوم هؤلاء الأفراد أنفسهم بالتضحية بها بلا تردد من أجل هدف أسمى ؛ فلا يهم أن يهدم هذا المنزل ولا ذاك المصنع ولا ذلك الجسر ، ولا يهم أن تشتعل النيران في هذا الحقل ولا هذه الأرض ، ولا أن يهلك الزرع ويموت الضرع ، بل المهم هو إعلاء كلمة الله أو النصر في الحرب أو تدعيم الدولة وإثبات حقوقها وسيادتها بغض النظر عما يقع من خراب ودمار في الأرواح والممتلكات ، وهذا التفكير يتجاوز تمامًا مجتمع المصالح الشخصية الذي تبنيه الليبرالية وتدعو إليه من خلال إعلاء قيمة الفرد فوق قيمة الدولة والمجتمع .
والواقع أن الفرد عندما يحارب في سبيل الله أو من أجل بلاده فإنه يبرهن أنه على استعداد للتضحية بكل الماديات وتجاوزها بما فيها ثروته وممتلكاته في سبيل هدف أسمى هو أهم من القيم الأنانية الفردية بشهادته نفسه عندما يضحي بكل هذه القيم في سبيل هذا الهدف السامي .
ومن هنا فإن الحرب تبرهن على أن كل ما تدعو إلى الليبرالية من قيم مادية مثل الممتلكات والثروات الشخصية التي يلهث ورائها البشر إنما هي أشياء فانية زائلة لا قيمة لها ساعة الجد ، ففي ساعة الجد توضع حياة الفرد وممتلكاته في حجمها الطبيعي ويعرف المرء قيمتها الحقيقية في مقابل قيم أخرى أعلى وأسمى مثل الله والوطن والأمة .
الحرب إذن هي البرهان الحاسم على أن قيم الليبرالية ليست قيمًا مطلقةً ساميةً متسقةً ، والدليل هو أنها لا تصلح في كل الأحوال ولابد أن تزول في مرحلة من المراحل ، وأنها في حقيقة الأمر قيم نسبية وأن كل ما تدعو إليه إنما هي أشياء فانية زائلة يمكن إهدارها والتضحية بها ولا ينبغي النظر إليها على أنها الغاية المثلى والهدف الأسمى .
والله أعلم .
ليست هناك تعليقات :