دلالة الفطرة على وجود الله - صياغة عصرية
يعتبر دليل الفطرة من أبرز الأدلة التي يسوقها العلماء للدلالة على وجود الله تعالى ، ويستند هذا الدليل على أن الإيمان بوجود الله تعالى حقيقة مركوزة ومغروسة في الفطرة البشرية ليست بحاجة إلى البرهنة والدلالة عليها نظرًا لوضوحها وجلائها عند كل إنسان ، حتى قال عنها الفيلسوف الفرنسي ديكارت : (لا يبقى ما يقال بعد ذلك إلا أن هذه الفكرة ولدت ووجدت معي منذ خلقت ، كما ولدت الفكرة التي لدي عن نفسي ، والحق أنه لا ينبغي أن نعجب من أن الله حين خلقني غرس فيّ هذه الفكرة لكي تكون علامة للصانع مطبوعة على صنعته)(1) .. بل إن الفيلسوف الاسكتلندي الشكاك ديفيد هيوم يعترف بهذه الفطرة في كتابه الحوارات : (ليس هنالك من هو أشد مني إحساسًا بالدين المنطبع في نفسي أو أشد تعلقًا بالموجود الإلهي كما ينكشف للعقل بين ابتداع الطبيعة وصناعتها اللذين من الصعب تفسيرهما)(2) ، وكما يقول في موضع آخر من نفس الكتاب أنه (لا توجد حقيقة أظهر وأوضح من وجود إله)(3) .
لكننا عندما نحاول بيان هذا الدليل للملحد ينبغي أن نضع في الاعتبار أن المخالف لا يقر بهذه الفطرة ولا يعترف بوجود هذه الحقيقة العلمية الفطرية إما عنادًا ومكابرةً أو لوجود خلل أو فساد أصاب فطرته فصار غير قادر على إدراك الحقائق الفطرية والانصياع لها ، لهذا نحن بحاجة إلى بيان دلالات أخرى من الفطرة تدل على وجود الله ، وسوف نتناول هذه الدلالات في ثلاثة محاور : المبادئ العقلية - الغرائز - القيم الأخلاقية .
المبادئ العقلية :
المبادئ العقلية أو المبادئ الأولية أو الأوليات أو البديهيات العقلية هي المقدمات الضرورية للاستدلال العقلي ، أي: هي أساس كل استدلال عقلي ، وهي تعود إلى أربعة مبادئ هي : مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض ومبدأ الثالث المرفوع ومبدأ السببية (4) ، والبعض يجعلها أكثر من ذلك (5) ، وهناك من يجعلها في مبدأين فقط : مبدأ عدم التناقض ومبدأ السبب الكافي (6) .
وهذه المبادئ تتسم بأنها فطرية غير مكتسبة ، أي: لا يتعلمها الإنسان بعد ولادته ، بل يولد بها ، فالإنسان عندما يولد يكون لديه أسس وبديهيات للتفكير السليم يصل بها لاستيعاب الحقائق وتمكنه من الوصول لها ، يقول العلامة ابن حزم : (والإدراك السادس علمها بالبديهيات.
فمن ذلك علمها بأن الجزء أقل من الكل فإن الصبي الصغير في أول تمييزه إذا أعطيته تمرتين بكى وإذا زدته ثالثة سر وهذا علم منه بأن الكل أكثر من الجزء وإن كان لا ينتبه لتحديد ما يعرف من ذلك ومن ذلك علمه بأن لا يجتمع المتضادان فإنك إذا وقفته قسراً بكى ونزع إلى القعود علماً منه بأنه لا يكون قائماً قاعداً معاً.
ومن ذلك علمه بأن لا يكون جسم واحد في مكانين فإنه إذا أراد الذهاب إلى مكان ما فأمسكته قسراً بكى وقال كلاماً معناه دعني أذهب علماً منه بأنه لا يكون في المكان الذي يريد أن يذهب إليه ما دام في مكان واحد.
ومن ذلك علمه بأنه لا يكون الجسمان في مكان واحد فإنك تراه ينازع على المكان الذي يريد أن يقعد فيه علماً منه بأنه لا يسعه ذلك المكان مع ما فيه فيدفع من في ذلك المكان الذي يريد أن يقعد فيه إذ يعلم أن مادام في المكان ما يشغله فإنه لا يسعه وهو فيه.
وإذا قلت له ناولني ما في هذا الحائط وكان لا يدركه قال لست أدركه وهذا علم منه بأن الطويل زائد على مقدار ما هو أقصر منه وتراه يمشي إلى الشيء الذي يريد ليصل إليه وهذا علم منه بأن ذا النهاية يحصر ويقطع بالعدو وإن لم يحسن العبارة بتحديد ما يدري من ذلك.
ومنها علمه بأنه لا يعلم الغيب أحد وذلك أنه إذا سألته عن شيءٍ لا يعرفه أنكر ذلك وقال لا أدري.
ومنها فرقة بين الحق والباطل فإنه إذا أخبر بخبر تجده في بعض الأوقات لا يصدقه حتى إذا تظاهر عنده بمخبر آخر وآخر صدقه وسكن إلى ذلك.
ومنها علمه بأنه لا يكون شيءٌ إلا في زمان فإنك إذا ذكرت له أمراً ما قال متى كان وإذا قلت له لم تفعل كذا وكذا قال ما كنت أفعله وهذا علم منه بأنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في زمان.
ويعرف أن للأشياء طبائع وماهية تقف عندها ولا تتجاوزها فتراه إذا رأى شيئاً لا يعرفه قال أي شيء هذا فإذا شرح له سكت.
ومنها علمه بأنه لا يكون فعل إلا لفاعل فإنه إذا رأى شيئاً قال من عمل هذا ولا يقنع البتة بأنه انعمل دون عامل وإذا رأى بيد آخر شيئاً قال من أعطاك هذا.
ومنها معرفته بأنه في الخبر صدقاً وكذباً فتراه يكذب بعض ما يخبر به ويصدق بعضه ويتوقف في بعضه هذا كله مشاهد من جميع الناس في مبدأ نشأتهم.
قال أبو محمد فهذه أوائل العقل التي لا يختلف فيها ذو عقل وههنا أيضاً أشياء غير ما ذكرنا إذا فتشت وجدت وميزها كل ذي عقل من نفسه ومن غيره وليس يدري أحد كيف وقع العلم بهذه الأشياء كلها بوجه من الوجوه ولا يشك ذو تمييز صحيح في أن هذه الأشياء كلها صحيحة لا امتراء فيها وإنما يشك فيها بعد صحة علمه بها من دخلت عقله آفة وفسد تمييزه أو مال إلى بعض الآراء الفاسدة فكان ذلك أيضاً آفة دخلت على تمييزه)(7) .
ثم قال : (فهذه المقدمات التي ذكرناها هي الصحيحة التي لاشك فيها ولا سبيل إلى أن يطلب عليها دليلاً إلا مجنون أو جاهل لا يعلم حقائق الأشياء ومن الطفل أهدى منه.
وهذا أمر يستوي في الإقرار به كبار جميع بني آدم وصغارهم في أقطار الأرض إلا من غالط حسه وكابر عقله فيلحق بالمجانين لأن الاستدلال على الشيء لا يكون إلا في زمان ولابد ضرورة يعلم ذلك بأول العقل لأنه قد علم بضرورة العقل أنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في وقت وليس بين أول أوقات تمييز النفس في هذا العالم وبين إدراكها لكل ما ذكرنا مهلة البتة لا دقيقة ولا جليلة ولا سبيل على ذلك فصح أنها ضرورات أوقعها الله في النفس ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات ولا يصح شيءٌ إلا بالرد إليها فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة فهو صحيح متيقن وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط)(8) .
كذلك ترى د. أليسون جوبنيك أستاذة الطب النفسي للأطفال أن الطفل في استكشافه للعالم من حوله وسعيه لاكتساب اللغة والمعارف يتصرف تمامًا كالعالم في مختبره ، فهو يضع الفرضيات ويختبرها ويستبعد النتائج غير المفيدة أو المتناقضة أو المغرقة في التعقيد (9)، وفي هذا دليل على أن الطفل لديه بنية عقلية داخلية intrinsic structure قادرة على تحليل معطيات البيئة المحيطة واستنباط المعلومات منها ، وأن لديه قواعد أولية للفكر والنظر واستيعاب البيانات والمعلومات لم يكتسبها بعد الولادة ، بل هي مغروسة فيه منذ البداية ، ويتم تشغيلها وتفعليها بعد ولادته واحتكاكه بالعالم الخارجي ، وهذا عين ما نقصده بأوليات العقل أو المبادئ الأولية أو المبادئ الضرورية .
ويلفت نظرنا شيخ الإسلام ابن تيمية إلى نقطة مهمة بقوله : (الإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن ، و العلم الحاصل في قلبه حادث ، فلو لم يحصل في قلبه علم إلا بعد علم قلبه ، لزم أن لا يحصل في قلبه علم ابتداء ، فلا بد من علوم بديهية يبتدؤها الله في قلبه ، و غاية البرهان أن ينتهي إليها)(10) . ومقصوده رحمه الله أن العلوم التي يكتسبها المرء لابد لها من أسس ومبادئ تنبني عليها وإلا لن يكتسبها الإنسان ، وطالما أنه قادر على اكتساب المعلومات فهو لديه بالفعل هذه الأسس والمبادئ .
والحقيقة أن وجود هذه المبادئ العقلية يدفعنا للسؤال عن موجدها ، فمن المؤكد أن الإنسان لم يوجدها لأنها موجودة في بنيته العقلية من قبل ولادته ، وكذلك فإن الوجود المادي الطبيعي لا يمكنه إيجادها ، فهذا دليل على أنها من إيجاد العليم الخبير ، فيكون وجود المبادئ العقلية دليلاً على وجود الله وخالقيته وعلمه وحكمته .
الغرائز :
يمكن تعريف الغريزة بأنها هي الميل الفطري الذي يدفع الكائن الحي إلى العمل في اتجاه معين تحت ضغط حاجاته الحيوية ، والأمثلة عليها كثيرة جدًا تفوق الحصر في الحشرات والطيور والحيوانات المختلفة مثل بناء العش أو الخلية عند الزنابير والنحل والنمل ، وسبل التمويه والتخفي من الأعداء عند دودة القز مثلاً ، وهجرات الفراشات والجراد والطيور والأسماك والزواحف والثدييات من أوطانها في مسارات ثابتة محددة ثم العودة ، وفي الإنسان هناك غرائز الجوع والعطش والجنس وحب البقاء والأبوة والأمومة وغيرها ، حتى قال أحدهم إن الإنسان لو لم ير الماء قط لبحث عنه لأن غريزة العطش داخله تهفو إلى الماء وتهدي إليه . وتعتبر الغرائز من المسائل المستعصية على الطبيعيين أتباع الفلسفة الإلحادية وأنصار نظرية التطور لأن عددًا منها موجود في كائنات ذات جهاز عصبي محدود ليس لديه القدرة على بناء خطط وتكتيكات معقدة للتمويه وخداع الأعداء (11) ، كذلك عدد من هذه الغرائز غير قابل للانتقال وراثيًا لكونه في أفراد عقيمين مثل شغالات النحل أو النمل (12) ، لهذا فإن وجود الغرائز في الكائنات المختلفة تدل على أن هناك من غرسها فيها ، وفيها دلالة بارزة على وجود الله وخالقيته وعلمه وحكمته .
القيم الأخلاقية :
من الأمور الملحوظة في البشر هي اتفاقهم في القيم الأخلاقية العامة مثل حسن العدل والصدق والأمانة وقبح الظلم والكذب والغش . وهذا على المستوى العام المطلق ، أما عند تنزيل هذه القيم المطلقة على الواقع ، فقد يختلف الناس في التطبيق ، لكنك لا تجد واحدًا يزعم أن الكذب خير من الصدق أو أن الظلم خير من العدل ، فنحن نعرف بالفطرة أن العدل حسن والظلم قبيح ، وأن الصدق حسن والكذب قبيح ، ووجود هذه الفطرة الأخلاقية دليلٌ على وجود الخالق وبرهانٌ عليه ، فالفطرة الأخلاقية هي المعيار الذاتي الذي نحكم به ، وفلاسفة الأخلاق يسمونها الحاسة الخلقية أو الضمير ، ويختلف هؤلاء الفلاسفة في كون هذه الحاسة محلها العاطفة أم العقل ، لكن ما يعنينا هنا هو أن وجود هذه الفطرة يقتضي وجود خالقها ، وأن في وجودها دلالة على وجود الله الخالق البارئ .
الخلاصة
يظهر مما سبق أن وجود أوليات العقل والغرائز والقيم الأخلاقية عبارة عن وجود أولي فطري غير مكتسب ، وأن هذا الوجود يستلزم الدلالة على وجود من غرس هذه السمات وأودعها في الإنسان ، وأن فيها دلالة على وجود الله وخالقيته وعلمه وحكمته . وفي هذا الاستدلال تدعيم لدلالة الفطرة على وجود الله من جهة وجودها الأنطولوجي فضلاً عن دلالتها المعرفية من جهة فطرية الإيمان بالخالق والتوجه إليه .
-----
(1) التأملات ، ديكارت ، ترجمة د. عثمان أمين ص155
(2) محاورات في الدين الطبيعي ، ديفيد هيوم ، ترجمة د. محمد فتحي الشنيطي ص140-141
(3) المصدر السابق ص11
(4) يوسف كرم ، العقل والوجود ص142
(5) عبد الرحمن بدوي ، موسوعة الفلسفة ج2 ص240
(6) عبد الله القرني ، المعرفة في الإسلام ص297-298
(7) الفصل بين الملل و الأهواء و النحل ج1 ص16-17
(8) المصدر السابق ص17
(9) Gopnik, A., A. N. Meltzo®, and P. K. Kuhl. The Scientist in the Crib: Minds, Brains, and How Children Learn. New York: William Morrow and Company, 1999.
(10) درء تعارض العقل والنقل ج3 ص308
(11) Hoimar Von Dithfurth, Dinazorların Sessiz Gecesi 1, pp. 12-19
(12) Gordon Rattray Taylor, The Great Evolution Mystery (London: Martin Secker & Warburg Ltd, 1983), p. 222
رائعة جداً جداً
ردحذفوعجبني أسلوب العرض و التحليل ثم الاستنتاج الذي اتبعته :)
جزاكم الله خيراً وجعله في ميزان حسناتكم
الله اكبر جميل جدا شيخنا الفاضل
ردحذف