إعجاز القرآن - مدخل عقلي مفصل
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه
ونستغفره . . .
كثيرًا ما أقرأ انتقادات لمسائل في
العقيدة أو السنة أو الشريعة الإسلامية في مواقع الإنترنت ، وكلما أتأمل كلام
المنتقد أجده غير فاهم للمسئلة التي يتناولها بالنقد ، وهذه المشكلة في تصور
المسائل هي منشأ الغلط في الحكم عليها ونقدها . وأنا أجزم أن كثيرًا من العقلاء
الذين قابلتهم في حياتي ممن يظهرون العداء للإسلام عامةً أو بعض مسائله ، إذا ما
صورت لهم المسائل بالطريقة الصحيحة ستجدهم موافقين لنا أو لنقل إن الهوة الكبيرة
التي يرونها بيننا وبينهم ستتضاءل فيقتربوا منا أكثر . وفي أقل التقادير فإن أقل
ما أحصله حين أتكلم مع المخالف أن أنتزع منه احترامًا وتقديرًا للإسلام ولشريعته ،
واعترافًا بأن قضاياه ومسائله ليست كلامًا سخيفًا يمكن نقضه أو حتى نقده ببادي
النظر .
والحديث ذو شجون على أية حال . . .
الغرض من كتابة هذا المقال هو التركيز
على وجه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم وعرضه في صورة مبسطة لمن لا يستوعبه بسبب
عدم علمه بالعربية أو عدم تذوقه لأوجه جمالها .
ولنحاول أن نبدأ بأن نفهم : لماذا اللغة
؟
(1)
السؤال الأول : لماذا ؟
من المعروف أن القرآن نزل بلغة العرب
كلماتٍ وألفاظًا وتراكيب . ومع ذلك لم ترتفع همة لبليغ عربي أو فصيح بدوي لمنافسة
القرآن وقنعوا جميعًا بالعجز .
رغم أن صوت القرآن فوقهم كان ينادي
بالتحدي .
ورغم أن الاستجابة للتحدي مغروزة في
فطرة الإنسان .
ورغم أن هؤلاء العرب كانوا مشهورين
بالعزة والكبرياء وهم الذين لم يعرفوا للذل طعمًا ولم يتسلط عدو محتل على بلادهم
قطٌ طوال تاريخهم الشاسع .
رغم هذا كله لم يقبلوا تحدي القرآن
وقابلوا الدعوة الجديدة بالسيف وتحملوا في سبيل ذلك مقاتل الرجال وسبي النساء وفتّ
الأكباد وتيتيم الأولاد .
لكن . . .
لماذا اللغة ؟
لنفهم الجواب على هذا السؤال يجب أن
نعرف أن هناك شروطًا لابد من توافرها في المعجزة الخاتمة :
شرط عموم الإنسان .
شرط عموم الزمان .
شرط عموم المكان .
فمعجزة خاتم الأنبياء لابد أن تصل
للجميع ، إلى كل مدعو من الأنس والجن , فلا تقوم الحجة على الجميع على نحو سواء ,
إلا إذا باشرها جميعهم على نحو سواء .
فبدهي أن من رأى الآية عن كثب ليس كمن
رآها عن بعد , ومن عاينها ليس كمن سمع عنها . ومن باشرها ليس كمن لم يباشرها .
ومن منطلق العدل الإلهي فى هداية البيان
لزم التساوي بين الجميع ؛ فلله الحجة البالغة ، وحجج الناس داحضة عند ربهم .
ومن المبدإ نفسه تحتم على المعجزة
الخاتمة أن لا تختص بمكان دون مكان ؛ لأنها لو كانت كذلك لحصل الإخلال بشرط عموم
الانسان لأن الحجة تكون قد أقيمت على من يكون "هنا" وليس على من هو كائن
"هناك" .
ومن هذا المشرب أيضا مقولة الزمان :
فينبغي للمعجزة الخاتمة أن تستمر من مبعثها الى ختام الزمن أو بعبارة أدق الى زمن
آخر مكلف فى هذه الحياة الدنيا .
ما المعجزة التي ستفي بالشروط الثلاث
معًا ؟
مهما فكرنا فى الافتراض وأعدنا فى
الاحتمال لن نتجاوز "اللغة" .
لو كانت المعجزة من جنس عصا موسى أو
إحياء الموتى لأخلت بشرط عموم المكان لأنها وقعت في مكان واحد ، وبشرط عموم الزمان
لأنها وقعت في زمن محدود ، وبشرط عموم الناس لأن الكل لن يباشروها بحكم محدودية
المكان والزمان .
لكن انظروا الى القرآن لما كان من جنس
اللغة فقد لبى كل الشروط :
يتلى هنا وهناك .
يتلى اليوم وغدًا , هنا وهناك .
يتلوه زيد وعمرو , اليوم وغدًا , هنا
وهناك .
ويجب في هذا المقام أن ننتبه لخاصية
مهمة في اللغة :
اللغة ملك كل عاقل . ولعلها الشيء
الوحيد الموزع بالتساوي بين الصغير والكبير والمرأة والرجل والبدوي والحضري .
وانظروا تبعًا لذلك لعموم التحدي
بالقرآن ، فلو كان بشيء علمي لقيل هو خاص بالعلماء ، ولو كان بمهارة لقيل هو خاص
بمن لهم نوع تلك المهارة .
لكن التحدي كان باللغة التي تعرفها
العجوز ويتقنها الصبي .
وهذا هو عموم الإنسان الذي توافر في
معجزة القرآن الخالدة ، فلو كانت المعجزة الخاتمة من نوع علمي كسلاح نووي أو آلة
غير معهودة فى الزمن الماضي ثم تحدى صاحب المعجزة قومه ، فهل سيكون التحدي صحيحا ؟
لا !
لأن التحدي هنا نسبي . صحيح إن بعض
القوم سيؤمنون بالنظر الى وقوع المعجزة أمام أعينهم لكن هذه المعجزة بعينها فى
عيوننا - نحن المعاصرين - ليست كذلك ويستطيع بعضنا أن يأتي بمثلها أو أفضل منها أو
قريبًا منها ، أليس كذلك ؟
(2)
قياس الأولى
في آية التحدي في سورة البقرة نقرأ قوله
تعالى :
{ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ
شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ
وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
يالها من آية هائلة !
(إن كنتم في ريب ... فأتوا ..) و(إن لن
تفعلوا ... فاتقوا ..)
ومفهوم الشرط فى الأولى يفيد أن من عجز
عن الإتيان بمثل سورة لن يكون عنده ريب أو شك .
لكن ماذا لو عجز الانسان عن الإتيان
بمثل سورة ، ثم قال : لإن كنت عاجزا فلعل غيري يستطيع ذلك ، أو لإن كان الناس
اليوم عاجزين فمن المحتمل أن يستطيع غيرهم فى ما سيأتي من الأزمان .
أليس هذا يدعو الى الريب من جديد ؟ فكيف
نوفق بين هذا وبين نفي الريب بمجرد العجز الشخصي عن الإتيان بمثل سورة من القرآن
كما هو مفهوم ؟
وكل مؤمن بالقرآن يعتقد ان تحدي القرآن
مطلق لعموم الخلق لا نسبي .
ثم هنا أمر آخر يستفاد من الجملة
الاعتراضية (ولن تفعلوا) ، فالنفي بـ(لن) يفيد التأبيد ، أي يعني لن يكون فى مقدور
الإنس والجن الإتيان بمثل سورة في كل الأزمان المستقبلة .
لا شك عند المؤمن بالقرآن في صدق الله
تعالى في ما أخبر ، لكن التحدي هنا للكافر الشاك ، ولا يعقل أن يصادر القرآن على
المطلوب ، فلا بد أن يكون الكافر المتحدى عنده يقين بعدم استطاعة الإنسان - لا هو
ولا غيره - فى الاتيان بمثل القرآن ، وهذا اليقين ينبغي أن يكون بمصدر آخر غير
إخبار القرآن ، وهذا اليقين من جهة أخرى ينبغي أن يزيل كل ريب ، ومن جملته احتمال
القدرة المستقبلية فى الاستجابة للتحدي فى يوم ما ومكان ما .
بدون هذا كله لن يكون التحدي حقيقيا .
حسنٌ .
قلنا أن أي معجزة سوى اللغة لا تصلح لأن
تكون مادة التحدي الذي جاء به القرآن ، لأنها الشيء الوحيد الذي يباشره جميع الناس
ويعرفونه ويتذقونه ، وليست خاصة بفئة دون فئة .
وهناك خاصية أخرى للغة لا يشاركها فيها
غيرها - وهي العمدة فى كل استدلالنا - : اللغة هي الشيء الوحيد الذي لا يتصور أن
يتفوق فيه الخلف على السلف .
صحيح يجوز ان يكون علم الخلف أفضل من
علم السلف ، وسياسة الخلف أمضى من سياسة السلف ، وأعمار الخلف أطول من أعمار السلف
.. إلخ ...
لكن قطعًا قطعًا لا يمكن للخلف أن
يتفوقوا على السلف فى اللغة التي علموهم إياها .
لاحظوا أنني لا أتحدث عن تطور اللغة
فبإمكان الخلف أن يغيروا من لغتهم جزئيا أو كليا كما حدث عندنا فى ما يسمى
باللهجات ، وكما حدث عندهم فى اللاتينية حين اشتقت منها فرنسية واسبانية وايطالية
، لكن هذا المتولد من الاشتقاق ومن التحريف لا يحسب لغة للسلف .
لكنني أتكلم عن الفصاحة وهو أمر آخر .
فامرؤ القيس عندي أفصح من الف ابن تيمية ، مع أن الأول مشرك كافر وابن تيمية هو
شيخ الإسلام ومجدد الملة .كما أن عجوزا فى بادية العرب فى الجاهلية أفصح وأعلم
باللغة من المتنبى الذى ملأ الدنيا وشغل الناس .
والسر فى ذلك أن اللغة مفردات اصطلح على
معانيها واستعملت في تلك المعاني ، وتطاول الزمن من شأنه أن ينسي بعض المعاني أو
يزيد اليها معان جديدة وفى الحالتين معا إما أن تصبح اللغة أكثر فقرًا أو تحرف .
وهنا معجزة أخرى للقرآن وهو أنه أوقف
اللغة العربية ومنعها من "التطور" فكانت لغتنا الفصحي اليوم هي لغة
الجاهليين (قارن مع الفرنسيين مثلاً الذين يترجمون فرنسية "رونسار" الذي
كان فى القرن الثالث عشر الى فرنسية "سارتر") .
قال الامام العظيم "مالك ابن
أنس" فى قولته المنهجية التي ينبغي أن تخضع لها الأعناق :
(( ما لم يكن يومئذ دينًا فليس اليوم
بدين ))
وأقول على أثره رضي الله عنه : ما لم
يكن يومئذ لغة عربية فليس بعربية .
إن عجز المخاطبون عن الإتيان بمثل سورة
من القرآن ، فمن بعدهم أشد عجزًا ، لما ثبت عندنا من أن صاحب اللغة أفصح ممن ليس
بصاحبها ، ومعلم اللغة أعلم بلغته ممن تعلمها منه ، ولا يقال ان بعض الاعاجم قد
تفوقوا على أساتذتهم فى اللغة كسيبويه والزمخشري وغيرهم لأننا نقول تفوقوا
لمعرفتهم بمصادر أخرى للغة لا استنادا الى عقولهم وذكائهم ، فأوضاع اللغة لا علاقة
لها بالعقل كما هو معروف .
الانسان المتحدى فى آيتي البقرة يقطع أن
البشر لا يستطيعون أن يأتوا بمثل القرآن مستقبلاً استنادا الى أمر عقلي لا يقاوم
وهو قياس الأولى : عجز المتأخر فى اللغة أولى من عجز المتقدم .
وهذا يقطع الطريق على كل احتمال فى
امكانية نجاح الأواخر بما لم يستطعه الأوائل .
وفي ضوء هذا القياس الأولوي قامت الحجة
على كل الناس : فالعالمون بالعربية منهم قامت عليهم الحجة بعجز أسلافهم ، والأعاجم
قامت عليهم الحجة بعجز العرب ، وهذا قاطع لمن لا يكابر .
(3)
شبهة وجوابها
شبهة قديمة جديدة لا زالت تتداولها
الألسنة حتى الآن مفادها أن معجزة القرآن قد قامت على العرب دون العجم ؛ لأن
الأعجمي لا يباشر لغة القرآن ولا يتذوقها ، وهذا ينقض ما ذكرناه من شرط عموم البشر
.
وقد يقترح البعض الإعجاز العلمي كبديل
لهذا "القصور" في معجزة البلاغة !
وجوابنا من وجوه :
أولاً :
نحن لا نسلم بكون الأعجمي لا يمكنه تذوق
بلاغة القرآن ، بل نقول إن هذا ممكن .
مثال على ذلك : ما ذكره محمد يوسف علي
في ترجمته البديعة للقرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية عند ترجمه قوله تعالى
(اهدنا الصراط المستقيم) فقال ما معناه إن المقصود منها هو طلب الهداية إلى وفي
الصراط المستقيم ، وليس إليه فقط ، لأننا حتى داخل هذا الصراط فما زلنا في حاجة
للهداية .
وهذه من دقائق المعاني القرآنية التي
يمكن توصيلها لغير العرب .
والواقع إن هذا هو عين ما يقوم به أنصار
الإعجاز العلمي ؛ حيث يقومون بنقل الكلمة للغة الأجنبية وبيان معناها وجوانب
الإعجاز فيها لغير المتحدث بالعربية دون أن يكون لهذا الأجنبي تذوق للكلمة العربية
واستنباط لوجه الإعجاز فيها .
ثانيًا :
عدم تذوق الأعجمي للغة القرآن لا يعني
أن معجزته ليست حجة عليه ، بل الحق هو إنها حجة عقلية عليه بقياس الأولى وتقرير
هذه الحجة : إنه إذا ثبت عجز البلغاء والفصحاء عن معارضة القرآن ، واعترافهم
بإعجازه وأنه فوق كلام البشر ، علمنا أنه إن معجزًا لهؤلاء الفصحاء فهو لغيرهم
أبلغ إعجازًا . تمامًا كالملاكم القوي الذي يغلب ملاكمًا من نفس وزنه وحجمه ،
معلوم أنه لا تصمد أمامه امرأة من الجمهور .
وهذا الوجه الثاني هو نفس جوابنا على من
يحاولون الإتيان بما يظنونه معارضة للقرآن ؛ فإن البلغاء والفصحاء قد عجزوا ، فكيف
ينجح غير البليغ ؟
وإن زعم غير البليغ إنه بليغ فصيح ،
كذبناه !
لأن اللغة العربية ، إعرابًا وبلاغةً ،
كانت ملكة وسليقة عند العرب في الجزيرة ، فلما جاء الإسلام وأخرجهم من هذه الجزيرة
، واختلطوا بالأعاجم ، ضعفت هذه الملكة تدريجيًا حتى فسدت تمامًا ، وصارت اللغة
تكتسب بالتعلم والتعليم .
فمن أراد أن يبلغ مبلغ فصاحة عرب
الجزيرة كان واجبًا عليه أن يحيط بكل هذه اللغة من جميع مصادرها ، حتى يصل بالتعلم
إلى اكتساب ما كان ملكة وسليقة عندهم .
فإذا أحاط بكل علوم اللغة عند العرب ،
جاز له عندئذ أن يشرع في معارضة القرآن .
وليس قبل ذلك .
ثالثًا :
وهو وجه آخر لحجة البلاغة على العجم ،
وتقريره :
إن أهل كل فن هم الأولى بتقرير مسائله ؛
فإذا أجمع الأطباء إجماعًا لا اختلاف فيه أن مرضًا معينًا لا شفاء منه ، كان
إجماعهم حجة على جميع الخلق أطباء وغير أطباء ، ولا يعقل في هذه الحالة أن يأتي من
يزعم أن بمقدوره شفاء هذا المرض دون الأطباء وأهل الاختصاص .
كذلك إذا أجمع الفصحاء والبلغاء أن
القرآن معجز في بلاغته وفصاحته ، كان إجماعهم حجة على عموم البشر .
ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال :
(( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد
من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب
النار ))
وعبارة (لا يسمع بي) جاءت بلفظها فى
رواية مسلم وأحمد والبيهقي والطيالسي . فلا بد أن يكون مناط إقامة الحجة هو مجرد
السماع كما هو ظاهر الحديث .
ومعنى (لايسمع بي) : أن يسمع يهودي أو
نصراني - كيفما كانت لغتهما - أن رجلاً تحدى قومه فى لغتهم وبلغتهم فعجزوا ، فقد
قامت الحجة عليهما عقلاً بالنظر الى كل ما سبق .
وقد ثبت عجز البلغاء والفصحاء عن قبول تحدي
القرآن ، ولم يعارضوا واعترفوا ، وعرف إعجازه أهل اللسان بسليقتهم ، وعرفه العلماء
بمهارتهم في فن البيان ، وعرفه العوام بشهادة كل هؤلاء ، فثبت أنه معجز يقينًا .
فإن ظهر في آخر الزمان واحد - ممن لا
يعتد برأيهم - يزعم أن بإمكانه نقض هذا الإجماع قلنا له :
ليس لك ذلك ، فأنت لست من أهل الفصاحة
حتى يعتد برأيك ، فما بالك بما أجمعوا عليه ؟
وقد خبرنا أعداء الإسلام ، وهم من أعدى
أعداء العربية ، من النصارى والملاحدة والعلمانيين فوجدناهم ليسوا من أهل اللسان
العربي الفصيح أصلاً ، وكلامهم تفشو فيه العامية الساذجة ، ولا يميزون غالبًا بين
الهاء والتاء المربوطة ، ولا بين أحوال الفعل المضارع ، ولا بين أحوال الأحرف
الخمسة ، فضلاً عن أن يميزوا الأبلغ عن البليغ !
(4)
كلمة الوليد بن المغيرة
حاولنا أن نثبت أن التحدي القرآني
للعالمين لا يتوقف على أهلية المتحدى ، وقيام الحجة لا شك فيه ، وإن كان السامع
بالقرآن ليس عربيًا .
وماذاك إلا لقيام حجة عقلية موازية لا
سبيبل الى إنكارها مفادها أن عجز أهل اللغة العربية - أعنى المؤهلين للتحدي - دليل
قاطع على عجز كل الناس فى الحال والمآل معا .
ونزيد المسألة توضيحًا بتحليل موقف
مشهود منقول حدث فى بدايات النزول القرآني :
أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل
من طريق عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون
أن يجمعوا لك مالا ليعطوه لك فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله .
قال : قد علمت قريش أني من أكثر مالاً .
قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر
أو أنك كاره له .
قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل
أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده مني ولا بشاعر الجن ، والله ما يشبه الذي
يقول شيئا من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر
أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلوا وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته .
قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه .
قال : فدعني حتى أفكر .
ففكر ...
فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر يأثره عن
غيره فنزلت (ذرني ومن خلقت وحيدًا) .
سأقسم قراءتي لهذا الحدث الى مقامات
أربعة:
- مقام النقل والرواية .
- مقام السياق والملابسة .
- مقام مضمون كلمة الوليد .
- مقام شكل كلمة الوليد .
المقام الأول :
لقد ذاعت كلمة الوليد وانتشرت فى الآفاق
لحكمة أرادها الله عز وجل.ولتقريب هذا الحجم الهائل من مساحة الانتشار نلقي نظرة
على هذه الأسماء من المفسرين والمحدثين والمؤرخين واللغويين والادباء - اعتمادًا
على بحث سريع وغير شامل فى برنامج حاسوبي - :
الطبري ، ابن كثير ، القرطبي ، الشوكاني
، البغوي ، البيضاوي ، أبو السعود ، السيوطي ، النسفي ، الألوسي ، الثعالبي ،
الزمخشري ، ابن عاشور ، الصنعاني ، الزركشي ، الزرقاني ، البيهقي ، الحاكم ،
العراقي ، الألباني ، ابن عبد البر ، ابن حجر ، المباركفوري ، ابن تيمية ، ابن
القيم ، الغزالي ، عياض ، الذهبي ، الأدنروي ، ابن الأثير ، الجرجاني ، ابن منظور
، أبو السعادات ، ابن الاثير .. إلخ ..
هاأنتم أولاء ترون كم انتشر الخبر
واستفاض واستحق لقب الشهرة المطلقة .
وليس مقصودي إثبات صحة الخبر ، فتلك نية
اترفع عنها إذ حسبي عندئذ تصحيح واحد أو اثنين من النقاد ، لكن مقصودي أن الله
تعالى قضى أن تحفظ مقولة الوليد الكافر وتصل الى كل إنسان ويرددهاكل لسان ، لتقرع
كل الآذان.
لم ذلك؟
لعلاقتها المباشرة بإعجاز القرآن .
المقام الثاني :
لماذا جاء الناس إلى الوليد بن المغيرة
؟
ألأنه من زعماء قريش ؟ أم لصفة أخرى ؟
الاحتمال الأول ضعيف ؛ فما كان الناس
يريدون "قرارًا سياسيًا" بشأن مصير محمد بن عبد الله وإلا لقصدوا إلى
دار الندوة .
ولكنهم كانوا يريدون "رأي
خبرة" بشأن ما يقرأه محمد بن عبد الله .
لقد أدرك الوليد مقصد الناس وحاجتهم إلى
خبرته فاهتبلها مناسبة على عادة العرب للتفاخر والاستعلاء : (والله ما فيكم رجل
أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده مني ولا بشاعر الجن ...) .
وشاء الله أن يصل إلينا هذا لنكتشف
حقيقة أن العرب في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكونوا على مستوى واحد من
معرفة الكلام وتذوقه ، فثمة طبقتان على الأقل :
- العامة ممن يتكلمون الفصحى فى شؤونهم
.
- والخاصة من مثل الوليد المستفتى الذي
يتكلم كأبناء جلدته فى شؤون حياته لكنه يفضل عنهم بميزة نادرة : هي قدرته على
"الكلام على الكلام" .
ولتوضيح الفرق نشير إلى أن المستعمل
للغة عادةً يكون منشغلاً بمحتوى اللغة ومآربه حتى تشف اللغة أو تندك فى مقصوده فلا
يلاحظها .
أما الناقد اللغوي كالوليد فله شأن آخر
مع المتكلمين : انتباه الى المحتوى ، وانتباه الى اللغة فى ذاتها .
ومن ثم تأهل أكثر من غيره إلى الفتوى فى
القرآن .
ولا شك أنه سيكون لرأيه تبعاتٍ ثقيلةً
جدًا .
تبعات لم تفت ماكرًا كأبي جهل فبادر إلى
شن حرب نفسية يتوسل بها إلى إحداث ما هو شبيه بالتنويم المغناطيسي ليؤثر على صاحبه
فتأتي الفتوى على مقياس الاشتهاء .
( إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً
ليعطوه لك ، فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر أو أنك كاره له )
فكأن أبا جهل يريد أن يلقن صاحبه الجواب
؛ لكي لا تقع الكارثة .
لكن الله قدر أمرًا آخر :
أن يصدر وصف القرآن من خبير فى اللغة
والأساليب من جهة ، وهذا الخبير واقع فى ظرف عصيب كل مفرداته تدعو الى مناوءة
القرآن من جهة .
المقام الثالث :
قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل
أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده مني ولا بشاعر الجن ، والله ما يشبه الذي
يقول شيئًا من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر
أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلوا وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته .
هذا اعتراف الخبير ، وأبو جهل كان يعرفه
مسبقًا ، لذلك حاول "استصدار الفتوى" .
لكن سلطان القرآن على قلب الوليد كان
أقوى بكثير من "وسوسة" أبي جهل في أذنه .
وهكذا يصبح قول الوليد المحفوظ فى الناس
بالتواتر حجة على العربي والعجمي والاحمر والاسود .
وإن لم يذعنوا له لزمهم ألا يذعنوا لقول
صيرفي فى نقود ولا قول طبيب فى مريض ولا شهادة مهندس فى بناء ، فهل يلتزمون ؟!
وشاء الله أن يصدر هذا الرأي من كافر
عدو لله ولرسوله ولكلامه ، ليكون قوله فى القرآن فوق كل الشبهات ، وليشهد العالم
أن احتمال تواطؤ أو مجاملة غير وارد عند العقلاء ، والحق ما شهدت به الأعداء .
ثم انظروا الى أمر آخر :
قال : فدعني حتى أفكر ..
ففكر ..
فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر يأثره عن
غيره .
هاهو صوت الهوى بعد العقل ، وشتان بين
التلقائية والتكلف ، وبين الصدق والكذب .
قال : فدعني حتى أفكر .
هل سيفكر فى القرآن ؟
هيهات !
بل سيفكر فى الكذبة التي سيقولها للناس
.
المقام الرابع :
أسلوب الوليد فى هذه الواقعة عجيب ؛ فهو
يرتفع - حين الصدق - إلى درجة عليا من البلاغة ، فوصفه للقرآن قطعة فنية لا تجارى
.
والظاهر أنه قال ذلك على البديهة .
قال ابن عاشور : وقد روي أن الفقرات
الشهيرة التي شهد بها الوليد بن المغيرة للقرآن من قوله (إن له لحلاوة وإن عليه
لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بكلام بشر) قالها عند سماع هذه
الآية - يقصد(أن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية - .
ويشاء الله أن يحكم الحجة : الوليد يشهد
لبلاغة القرآن ، وشهادته نفسها تنادي ببلاغة صاحبها ، فتكون الحصيلة شهادة بليغ
بتفوق بليغ خصم ، وهذا منتهى الانصاف .
ثم انظر الآن إلى من كان محلقًا فى
أعالي الفصاحة - وهو صادق - كيف يهوي به التكلف إلى حضيض الكلام - وهو كاذب - .
لم يجد إلا أن يقول : هذا سحر !
وهو تعليل من حقه أن يصدر عن السذج من
الأطفال ، لكنه الهوى ..
.. و"التفكير" !
(5)
الخلاصة
نخلص من هذه الاعتبارات إلى تأكيد ما
قررناه من أن الحجة قد قامت علينا بمثل هذا الذي وصل إلينا ممن هو أهل للتحدي .
أما قطعان الملاحدة واللادينيين
والنصارى وغيرهم من أعداء اللغة والدين فلا يحق لهم أن يسلكوا أنفسهم فى زمرتهم
إلا إذا كانوا مصابين بداء الجهل المركب .
واسمحوا لي بهذا المثل الخارج عن
اللياقة - لكنه العي والفكاهة - :
عندما يسقط الملاكم خصمه الذي هو من
وزنه فى الدقيقة الأولى ، هل تعتقدون أنه من الممكن أن تجابهه امرأة من الجمهور ؟
وإن نهضت امرأة للتحدي ، ألن يدل ذلك
على حمقها وقلة عقلها ؟
والحمد لله وحده ، نستغفره ونتوب إليه ،
ونعوذ به من بلايا العصر ونوائب الدهر .
ليست هناك تعليقات :