تسمية 1

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

أسباب الإلحاد في العالم العربي



مقدمة
بسم الله والصلاة والسلام رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد..
يعتبر الإلحاد الجديد New Atheism مصطلحًا معروفًا متداولاً في الدوائر الفكرية والفلسفية، ويمكننا أن نؤرخ لبداية صعوده في الغرب بأحداث 11 سبتمبر 2001، ففي عام 2004 صدر كتاب الملحد سام هاريس Sam Harris (نهاية الإيمان) End of Faith الذي كان من أكثر الكتب مبيعًا في أمريكا، وكان فاتحة سلسلة من كتب الإلحاد الأكثر مبيعًا في العالم. في هذا الكتاب أشار سام هاريس إلى أن أحداث 11 سبتمبر - التي ألقى فيها اللوم على دين الإسلام بشكل مباشر - هي الدافع لكتابته هذا الكتاب، وهاجم الإسلام واليهودية والنصرانية بشكل عنيف. وبعد عامين قام هاريس بكتابة (رسالة إلى أمة نصرانية) Letter to A Christian Nation الذي انتقد فيه أيضًا النصرانية بشدة. في عام 2006 عرض ريتشارد دوكينز Richard Dawkins الفيلم الوثائقي (أصل كل الشرور) Root of All Evil طاعنًا في الله عز وجل وفي جميع الأديان، ثم أتبعه بكتابه الأشهر على الإطلاق (وهم الإله) The God Delusion الذي ظل شهورًا طويلة على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في العالم وطبع منه ملايين النسخ وترجم إلى العديد من اللغات.

لماذا نسعى لمعرفة أسباب الإلحاد في مجتمعاتنا العربية؟
1) تفيدنا معرفة أسباب الإلحاد في توصيف الحالة الإلحادية وتشخيصها بدقة وموضوعية، وبالتالي إجراء العلاج الصحيح. وإذا فشلنا أو عجزنا عن تحديد التشخيص بشكل سليم، لن نحدد العلاج بشكل سليم.
2) معرفة التنوع الكبير في أسباب الإلحاد يجعلنا أكثر موضوعية في تناول الظاهرة ويقينا من اختزالها بشكل سطحي في سبب واحد فقط مثل المؤامرات الخارجية أو حب الشهرة أو الموضة أو حب الشهوات.
يحكي المهندس عبد الله العجيري عن موقف وقع له مع أحد طلبة العلم عندما تطرق الحديث عن الشباب الملحد، فقال إن كل هؤلاء الملحدين طلاب شهرة![1] فهذا الاختزال المجحف لأسباب الحالة الإلحادية يبعدنا كثيرًا عن الموضوعية وعن تفهم أحوال الملحدين، وبالتالي يخلق حواجز عاليةً تحول بيننا وبين دعوتهم إلى الحق.
3) كذلك معرفة نقاط ضعفنا المعرفية والمجتمعية التي يتسلل منها الإلحاد إلى شبابنا تفيدنا في السعي لإصلاح هذه العيوب ورتقها ؛ فيهتم الآباء بالحوار مع أبنائهم الصغار والإجابة على أسئلتهم قبل أن يكبروا ويصبحوا خناجر مسمومة في قلب دينهم وأمتهم، وتهتم المؤسسات الدعوية بتحصين المجتمع ضد الأفكار والأطروحات الإلحادية ونشر الأجوبة على تساؤلات الشباب في صيغ عصرية كتابية و مرئية بحيث تكون في متناول العوام، و تهتم مراكز الأبحاث بتفكيك العلاقات بين النصوص الشرعية ومعطيات العلم التجريبي و تحليلها بالشكل الذي يدرأ الشبهة ويرفع التعارض الموهوم بين النقل والعلم، و هكذا..

أسباب الإلحاد في العالم العربي
يمكن تقسيم أسباب وقوع الشباب العربي في الإلحاد إلى أسباب شخصية واجتماعية ومعرفية، لكن قبل سردها أجد أنه من المهم التركيز على بعض الأسباب المحورية التي أبرزها كثيرٌ من الباحثين في قضايا الإلحاد الجديد.

الثورات العربية:
يرى عدد غير قليل من الباحثين والمتكلمين في قضية الإلحاد أن الثورات من الأسباب البارزة للإلحاد ؛ فالشيخ عبد المنعم الشحات يرى أن وقوع الثورات من أسباب الإلحاد، ويعلل ذلك بأن المزاج الثوري يدعو للثورة على كل الثوابت ومن أهم هذه الثوابت الدين[2]. كذلك المهندس فاضل سليمان يذكر نفس الرأي في حلقة تليفزيونية من برنامج (مصر الجديدة) على قناة الناس مع خالد عبد الله بتاريخ 22-5-2013[3]، ويستشهد بصعود الإلحاد بعد الثورة الفرنسية والثورة البلشفية، وينقل عن ألكسي دو توكفيل صاحب كتاب (الديمقراطية في أمريكا) الذي خصص فصلاً من الكتاب حول الإلحاد. وممن يرى هذا الرأي كذلك د. حسام أبو البخاري ود. أحمد الغريب في حلقة من برنامج (القاهرة اليوم) مع عمرو أديب بتاريخ 29-5-2013[4].
ومما يلفت النظر في هذا السبب تحديدًا أن الباحثين المصريين دون غيرهم هم الذين يشيرون إليه باستمرار، ونحن عمومًا لا نخالفهم في أهميته وإن كنّا لا نرغب في تضخيمه بدليل أن الإلحاد موجود في مجتمعات عربية وإسلامية لم تبلغها الثورات مثل بلاد الخليج. 

صعود الإلحاد في الغرب:
يرى المهندس عبد الله العجيري أنه هناك موجة إلحادية عارمة في أوروبا وأمريكا حيث شهد هذا بنفسه عندما كان مبعوثًا للدراسة بالخارج، وأن هذه الموجة العالية لا بد أن تبلغ آثارها مجتمعاتنا العربية بسبب أننا في موقع التبعية الفكرية للغرب. لكن المهندس عبد الله كان يأمل أن يتأخر بلوغ هذه الموجة لبلادنا العربية بعض الشيء بسبب عائق اللغة، ثم اكتشف سقوط هذا العائق أمام الحركة النشطة جدًا والدءوبة لترجمة الكتب والمقالات والأفلام والوثائقيات الإلحادية إلى اللغة العربية[5].

ثنائية القابلية والتأزم:
ذكر الأستاذ عبد الله الشهري في محاضرته ضمن فعاليات دورة (تهافت الفكر الإلحادي)[6] أن السبب الأول والأهم لوقوع الشخص في الإلحاد هو وجود القابلية للإلحاد، وهذه القابلية قد تكون نفسية أو فكرية. ودور التأزم هو أنه يحول هذه القابلية إلى إلحاد فعلي، والمقصود بالتأزم هو أن يقع الشخص في أزمة أو ابتلاء أو محنة، لكن الابتلاء قد يؤدي إلى الإيمان أو الإلحاد على السواء ؛ فهناك من الناس من تدفعه المحن والابتلاءات للجوء إلى الله تعالى والقرب منه، ومنهم من تدفعه إلى اليأس من روح الله، فالعامل الذي يدفع الشخص إلى الإلحاد عند الأزمات هو وجود القابلية للإلحاد.

الطبيعة الحدية للمجتمع:
ذكر الدكتور طارق الحبيب استشاري الطب النفسي في برنامج (بيني وبينكم) مع دكتور محمد العوضي في حلقات بعنوان (سيكولوجية الملحد)[7] أن طبيعة المجتمع العربي و الخليجي على وجه الخصوص- التي لا تقبل الاختلاف، التي تقوم على اللون الأبيض و الأسود و لا وجود للرمادي بينهما، تجعل الإنسان ربما يتجه إلى الإلحاد كتعبير عن التمرد على ذلك المجتمع، لكن يعيب طرح الدكتور طارق هو تضخيمه لهذا العامل والمبالغة فيه.
****

بعد هذا العرض لأبرز الأسباب التي اهتم الباحثون بذكرها والإشارة إليها نشرع في ذكر بقية أسباب الإلحاد الشخصية والاجتماعية والمعرفية.

أولاً: الأسباب الشخصية:
وهي التي تعود إلى الشخص نفسه، ويمكن تقسيمها إلى أسباب نفسية وأسباب فكرية، لكن مراعاة لعدم المبالغة في التقسيم سنذكرها مجموعة تحت تقسيم واحد.
1) الثقة الزائدة بالنفس والغرور المعرفي
بعض الشباب عنده ثقة زائدة بإيمانه وصحة اعتقاده، وفي كثيرٍ من الأحيان يكون هذا الإيمان مجرد إيمان قلبي عاطفي ليس مؤسسًا علميًا بشكل صحيح، فهو إيمان بالقلب دون معرفة أو علم سليم بالدين وأدلته وأسباب اليقين به. وعندما يتعرض هذا الصنف من المؤمنين لتحديات واستشكالات وتساؤلات الإلحاد لا يجد لديه من العلم أو المعرفة ما يدفع به هذه التساؤلات والشكوك، وهو في نفس الوقت لا يعترف بجهله بدينه وبأن الأجوبة على هذه التساؤلات موجودة لكنه يجهلها، فتكون النتيجة هي وقوعه في الإلحاد.
2) الجفاف الروحي
عدم الشعور بلذة العبادة والقرب من الله والأنس بذكره ومناجاته تبارك وتعالى يؤدي إلى جفاف شديد في المشاعر الروحانية، وهذا الجفاف يجعل قرار الإلحاد يسيرًا على المرء، بخلاف من عاين وخبر هذه المشاعر.
3) السطحية الفكرية
بعض الشباب عندما يشرع في قراءة بعض الكتب أو المقالات أو الفيديوهات التي تروج للإلحاد قد ينبهر بما تعرضه نظرًا لافتقاده الحاسة النقدية أو لعدم قدرته على التمحيص والنقد لكل ما يُعرض أمامه من أطروحات، فيكون هذا الأمر بابًا للوقوع في الإلحاد، بينما لو تريث الشاب حتى يزداد علمًا ورسوخًا في القراءة والمعرفة لكان قراره مختلفًا تمامًا، كما يقول د. هيثم طلعت: (الإلحاد هو حكمٌ سطحيٌ كسولٌ للغاية على قضية عميقة للغاية ممتلئة بالأدلة)[8]. ومن هذا الباب أيضًا المقولة المشهورة لفرانسيس بيكون: (قليل من الفلسفة يؤدي للإلحاد والتعمق فيها يؤدي للإيمان).
4) الاندفاع والعجلة
وهذا السبب قريبٌ من الذي قبله لكنه يتعلق بالجانب النفسي لا الفكري.
5) سطوة الشهوات ومحاولة الهروب من وخز الضمير
وهذا من أبرز أسباب الإلحاد بين المراهقين حيث يتعارض الاستمتاع بالشهوة مع الشعور بالذنب ووخز الضمير، ويكون على المرء أن يختار بين طاعة الله والانخراط في الشهوات، فيكون قراره هو التخلص من الله والدين وتكاليفه. وهذا هو ما يدندن حوله كثير من منظري الإلحاد في كلامهم عن أن الشخص عندما يتخذ قرار الإلحاد يشعر بحالة من الارتياح والخلاص من التكاليف الدينية، لكن بالطبع هذا الشعور المبدئي بالراحة والتخفف من التكاليف الدينية يليه بعد فترة طالت أو قصرت الشعور بالقلق النفسي وفقدان السعادة وعدم القدرة على التلذذ بالمتع الدنيوية حتى مرحلة اليأس والقنوط من مصاعب الحياة الدنيا والرغبة في الانتحار.
6) الاضطرابات النفسية
هناك علاقة بين الإلحاد وعددٍ من الاضطرابات النفسية مثل اضطراب الشخصية الحدية BPD الشخصية التي لا تعرف إلا لغة الـ مع و الـ ضد، وكذلك اضطراب الشخصية شبه الفصامية Semi Schizotypal Personality Disorder، الشخصية غريبة الأطوار، تكون في كل حالاتها كذلك و ربما تعتنق الإلحاد كجزء من الاضطراب. و هناك أيضا دوائر تتقاطع مع الاضطرابات النفسية -و هي ليست كذلك- مثل أصحاب الشذوذ الجنسي (Homosexuality - Bisexuality - etc..) يتم استهدافهم في الدعاية للإلحاد بزعم أن الإلحاد هو المذهب الوحيد الذي يمنحهم حريتهم الجنسية. و أخيرًا توجد دائرة مرض الوسواس القهري OCD و التي تتقاطع مع الإلحاد و تبدو كذلك و لكنها قطعًا ليست إلحادًا و لكنه مرض يحتاج إلى العلاج الدوائي و الجلسات حسب حالة المريض.
7) نظرية الوالد المشوه "المعيب"
وضع هذه النظرية البروفيسور بول فيتز أستاذ علم النفس بجامعة نيويورك مستخدمًا أدوات المدرسة التحليلية الفرويدية في علم النفس ليخرج بنتيجة مخالفة تمامًا لما وصل إليه فرويد ومنتقدًا إياه[9].
ولفهم هذه النظرية بدقة من المهم أن نتعرف بإيجاز على المدرسة التحليلية في علم النفس التي وضع أسسها سيجموند فرويد الذي لفت النظر إلى وجود ما يعرف باسم العقل الباطن أو اللاوعي أو اللاشعور، وكيف أن هذا العقل الباطن يؤثر في سلوكياتنا وأفكارنا وقراراتنا دون أن نشعر.
وينطلق بول فيتز من هذه المدرسة في علم النفس فيقرر أن دوافع الإلحاد وموانع الإيمان بالله تعالى هي بالأساس نفسية وليست عقلية منطقية، وأن هذه الدوافع تنقسم إلى قسمين: سطحية مثل الانتماء لفئة اجتماعية أو علمية معينة أو عدم الرغبة في التقيد بالتكاليف الدينية أو غيرها ؛ وعميقة في العقل الباطن وهي الدوافع التحليلية.
يرى فرويد أن أسباب الإيمان بالله نفسية لا يمكن الاعتماد عليها، وهي تعبيرٌ عن عقدة أوديب حيث يتخلص الأبناء من أبيهم الذي يغارون منه حتى يظفروا بأمهم، ثم ينشأ لديهم الشعور بالذنب تجاهه، ثم يتطور هذا الشعور إلى تعظيم وتبجيل ثم عبادة وتأليه، وهكذا ينشأ الإيمان بالله عند فرويد.
ينتقد فيتز هذا التصور من عدة وجوه لكن أبرزها هو أن الأوقع والأصوب على سبيل الإلزام اعتبار الإلحاد تعبيرًا عن عقدة أوديب حيث أن إنكار الإله هو هزيمة هذا الرمز الأبوي والانتصار عليه. لكن فيتز في الحقيقة لا يرى أن العقدة الأوديبية هي الصورة الصحيحة لتفسير الدوافع التحليلية في العقل الباطن للإلحاد.
تتلخص نظرية بول فيتز في أن المرء ينظر إلى الله سبحانه وتعالى على أنه أب مثالي، وعندما تتشوه صورة الأب الأرضي تختل بالتبعية صورة الأب السماوي مما يؤدي إلى الوقوع في الإلحاد والجحود وإنكار الله. ومن صور هذا الأب المشوه أو المعيب أن يكون ضعيفًا أو غير محترم أو عنيفًا أو قاسٍ أو غير موجود، ومن الأمثلة التاريخية لهذا الأمر: فرويد فولتير ماركس هتلر فيورباخ.

ثانيًا: الأسباب الاجتماعية:
وهي التي تنبع من المجتمع المحيط بالملحد في الأسرة والمدرسة والجامعة والعمل والأصحاب.. الخ..
1) الجمود الديني وضعف المناعة المجتمعية
والمقصود بهذا هو انخفاض مستوى التدين في المجتمع بشكل لا يوفر لأفراده المناعة أو الحصانة ضد الأفكار المخالفة بما فيها الإلحاد وأطروحاته. وهذا الانخفاض في التدين قد يكون على صورتين: انخفاض مستوى العلم بالدين والتفقه فيه بين الناس ؛ وانخفاض مستوى الالتزام بالطاعات ومراقبة الله في الأفعال والسلوكيات بين عوام الناس. في مثل هذا المجتمع الهش دينيًا يسهل على أفكار الإلحاد أن تتسرب بيسر إلى عقول وقلوب الشباب الذين لم ينشئوا على علم بالدين أو استحضار مراقبة الله في سلوكياتهم.
ولا يعني هذا الكلام أن أبناء الأسر المتدينة سيكونون محصنين ضد خطر الإلحاد والانحراف، بل الواقع أنه إذا كان المجتمع الخارجي في عمومه متحجرًا دينيًا وغير قادرٍ على مواجهة الأفكار المنحرفة ويسود فيه الجهل بالدين وعدم الالتزام به عمليًا وسلوكيًا، فليس هناك حصانة حقيقية فعلية لأبناء الأسر المتدينة، بل هم عرضة للوقوع في الإلحاد وسائر الانحرافات كغيرهم.
والمقصود بالجمود أو التحجر الديني هو عدم تطور أدوات وصياغات الخطاب الشرعي لتواكب الأطروحات الثقافية والعلمية الجديدة والتحديات التي يفرضها العصر والأوضاع الاجتماعية المستحدثة لكثير من الفئات المجتمعية، ولا يُقصد بهذا التطور تبديل الدين أو تغييره ليناسب الأفكار الدخيلة عليه.
2) كبت الأسئلة
بعض الأسر أو المجتمعات تمارس نوعًا عجيبًا من القهر على أبنائها فتمنعهم من طرح الأسئلة أو الاستشكال، وتهددهم بأن مجرد طرحها يعني الكفر والمروق من الدين، أو قد يقابلون أسئلة الشاب أو استشكالاته بالسخرية والتهكم والاستهزاء مما يدفعه لكتمانها صيانةً لمروءته وكرامته من الامتهان.
هذه الممارسة لكبت أسئلة الشباب تدفعهم للتفكير في أن الإسلام نفسه لا يملك أجوبة على التساؤلات وأنه يكبتها ويحرّمها حتى لا يقع الدين في الإحراج، وبالتالي تتضخم قوة هذه الاستشكالات والشبهات في ذهن الشاب إلى درجة تفوق حجمها الحقيقي ويظن أن الإسلام دين ضعيف لا يملك أجوبة ولا حلولاً لأسئلته حتى تصبح في نهاية المطاف السبب في إلحاده وتركه للإسلام بالكلية.
3) اضطهاد المرأة
هذا من أبرز وأكبر أسباب الإلحاد بين الفتيات خصوصًا أن دعاة الإلحاد يستهدفون المرأة بدعاياتهم الإلحادية بزعم التحرر من سلطة الآباء وقهر الذكور وغيرها من الشعارات، فإذا انضمت إلى هذه الدعاية ما تلاقيه المرأة من اضطهاد وظلم وقهر في مجتمعها أو أسرتها كان هذا داعيًا قويًا للوقوع في فخ الإلحاد.
أنا شخصيًا تعرفت إلى قصة فتاة مصرية من أسرة ثرية جدًا كان أخوها الأكبر ضابط شرطة، وكان هذا الأخ الضابط يمارس عليه ألوانًا كثيرة من الضرب والعنف إذا خالفته وكأنما هي أحد المجرمين الذين يتعامل معهم في قسم الشرطة! وفي نفس الوقت كانت هذه الفتاة تتواصل عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي مع عدد كبير من شباب الملحدين الذين أداروا رأسها بمعسول الكلام عن التحرر من السلطة الأبوية الذكرية بالإضافة إلى عبارات الغزل والغرام، وأنهم على استعداد لتهريبها إلى أحد دول شمال أوروبا كلاجئة ملحدة هاربة لأنهم يريدون تطبيق عليها حد الردة في بلدها، ولا يخفى على القارئ الكريم كيف يمكن أن تصبح فتاةً مثل هذه فريسةً سهلةً لأي أحد في بلد غريبة.
وأسوأ من هذا الأمر أن يتم تبرير هذا الاضطهاد والقهر للمرأة دينيًا بحيث تكتشف المرأة أن الإسلام هو سبب اضطهادها وظلمها، فيكون هذا داعيًا إلى تركها له. يحكي الأستاذ منير أديب قصة طبيبة مصرية ملحدة كان أول ما دفعها للإلحاد هو أن زوجها السلفي ضربها على وجهها، فلما شكت لوالدها أخبرها أن الله أعطى لزوجها هذا الحق وتلا الآيات القرآنية في ذلك، تقول الطبيبة: (كنت في غاية العجب من تفسير كلام والدي إن صح، أن تكون وصية الخالق ضرب وإهانة المرأة، خاصة وأن الإسلام يحرم ضرب الحيوان ذاته ؛ فهل المرأة هنا أقل من الحيوان؟)[10]                                                                      
4) تخلف الأمة
وهذا قد يعد من أسباب الإلحاد في المجتمعات المتخلفة حضاريًا خصوصًا إذا تم الربط بين هذا التخلف والدين ؛ فعندما يقارن الشباب المنبهر بالغرب بين تقدم الغربيين الكفار وتحضرهم وترقيهم في مدارج العلوم والحكمة، وبين تخلف بني قومه من المسلمين وتأخرهم وانحطاطهم قد تكون هذه المقارنة دافعًا له لفقدان الثقة في قدرة الإسلام على تحقيق التقدم والنهضة، وبالتالي الكفر به بالكلية.
وفي بعض الأحيان تكون الأمة أي أمة في محنة اقتصادية أو اجتماعية ويتم طرح حلول لهذه المحنة ويتطلع أفراد الشعب لهذه الحلول على أنها الأمل في إنهاء الأزمة والخروج من عنق الزجاجة، ثم يقوم رجال الدين برفض هذه الحلول لأنها مخالفة للدين أو متضمنة للكفر أو غيره من الأسباب، فيكون هذا الأمر من أسباب تفشي الإلحاد في هذه الأمة كما حدث في أوروبا في عصور النهضة والتنوير.
5) تمزق الأمة وتفرقها
وهذا أيضًا من أسباب الفتنة التي تؤدي بالشباب إلى الإلحاد ما بين سنة وشيعة و إباضية ومعتزلة، ثم بين السلفيين والأشاعرة والصوفية، وهكذا.. وهذه من أسباب الفتنة بين الشباب غير القادر على تمييز الحق من الأباطيل في هذه الأشلاء، فيقع في حيرة كيف يرضى الله الحكيم الرحيم أن يكون الدين سببًا في كل هذا التنافر والتناحر بين أبنائه مما يؤدي به في نهاية المطاف إلى الكفر بالله والإلحاد.

ثالثًا: الأسباب المعرفية:
وهي المتعلقة بالعلم والمعرفة والشبهات، وأفضل من تكلم عنها د. الطيب بوعزة الفيلسوف الأكاديمي المغربي في مداخلة ببرنامج حوارات نماء مع الدكتور عبد الله القرشي وعبد الله العجيري وعبد الله الشهري بتاريخ 10 رجب 1434 هجرية[11] حيث ذكر أسباب الإلحاد النفسية والمعرفية، وعند ذكر الأسباب المعرفية أوجزها في الآتي:
1) ضعف وفقر المكتبة العربية الإسلامية في نقد الإلحاد الجديد، فيجد الشباب المتشكك والمتسائل نفسه في العراء، وفي المقابل هناك وفرة في المواد الإلحادية كتابية و مرئية بشكل يجعل المعادلة تميل بشدة لصالح الإلحاد.
2) اعتماد العلماء على صياغات كلامية قديمة بائدة لا يفهمها العوام بينما الشبهات معروضة بصياغات يسيرة قريبة للفهم.
3) رفض بعض العلماء التصنيف في الرد على الشبهات، فعندما يبحث الشباب عن ردود على الشبهات التي تحاصره لا يجد، وبالتالي يظن أنه لا توجد ردود ولا إجابات، فيفقد ثقته في قدرة الإسلام على مواجهة الإشكالات والتساؤلات مما يؤدي في نهاية المطاف إلى الوقوع في الإلحاد.
وهذه الأسباب المعرفية للسقوط في الإلحاد تضم أيضًا شبهات كثيرة أهمهما:
- وجود الشر في العالم.
- القتل والحروب باسم الدين.
- شبهات حول القضاء والقدر.
- شبهات حول الحكمة الإلهية في الخلق.
لكن أهم هذه الأسباب المعرفية من وجهة نظري هو المتاجرة بالعلم لترويج الإلحاد ؛ حيث يتم الترويج لنظرية التطور مثلاً على أنها حقيقة قطعية يقينية وأنها هي العلم الذي لا يقبل الخلاف، كما يتم الترويج للنظريات الحديثة في نشأة الكون خصوصًا على يد العالم الفيزيائي الأشهر ستيفن هوكينج. فإذا تعارضت هذه النظريات مع الدين كان هذا دليلاً عند القوم على بطلان الدين وخرافاته. وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه الإسلام الآن ؛ مواجهة هذه النظريات العلمية وتمحيصها وتمييز الحق من الباطل فيها وفق منهجية شرعية إسلامية عقلية سليمة.

خاتمة وتوصيات
في نهاية هذا المقال حول أسباب وقوع الشباب العربي في الإلحاد أجد أنه من المفيد أن أكتب توصيات مختصرة بخصوص تناول هذا الملف، وقد فضلت في الحقيقة أن أستعمل نموذج د. جاسم سلطان في تجسير الأفكار وتجسيدها[12] حتىنتمكن من تحويل أفكارنا في مواجهة ملف الإلحاد إلى واقع فعلي.
بحسب هذا النموذج هناك ثلاث مجالات للعمل في هذا الملف:
  1. مجال الصناعات الفكرية الثقيلة، وهو المتعلق بمراكز الأبحاث والدراسات العلمية والشرعية على السواء، ومهمة هذه المراكز البحثية هو تناول أفكار الإلحاد وأطروحاته بالبحث والدراسة العميقين سواء على المستوى العلمي التجريبي أو المستوى الفلسفي على أيدي خبراء مختصين وباحثين مؤهلين تأهيلاً نوعيًا للخوض في هذه القضايا، وإخراج نتائج مبنية على دراسات عميقة مؤصلة.
  2. مجال الصناعات المتوسطة، وهو المتعلق بنشر الأفكار وترويجها وتيسيرها للعوام في الكتب والصحف والإعلام المكتوب والمرئي والمسموع والأفلام الوثائقية التاريخية والثقافية والعلمية والدروس الدينية والمحاضرات والندوات العامة، والغرض من خوض هذا المجال هو تقديم خلاصة أفكار مراكز البحوث إلى الناس بصورة سهلة يسيرة بناءً على خطط ومنهجية وأهداف محددة.
  3. مجال الصناعات الخفيفة، وهو المتعلق بالدعوة الفردية وتقديم الاستشارات الفكرية والتربوية والنفسية للشباب المتشكك وأصحاب التساؤلات وأهالي الملحدين وأصحابهم وزملائهم في العمل والدراسة وتوفير الدعم الفكري والنفسي عند اللزوم، وكذلك التدخل السريع للحوار مع الملحدين بغرض هدايتهم أو مناظرتهم عند اللزوم.
و لا يعني بالطبع هذا التقسيم أن الصناعات الثقيلة أهم وأفضل من المتوسطة أو أن المتوسطة تفوق أهميتها الخفيفة، بل كلها متساوية في الأهمية، والحاجة إليها كلها بالغة جدًا كما هو معلوم لكل متابع لملف الإلحاد في البلاد العربية.
و لا أملك في ختام هذا المقال المتواضع إلا أن أدعو الله ألا أكون قد أثقلت عليكم، وأسأله عز وجل أن يصلحنا جميعًا ويصلح شبابنا وشعوبنا، وأن يهدينا لكل خير ويصرف عنا كل سوء، اللهم آمين!


وقد ذكر أسبابًا أخرى كثيرة نفسية ومجتمعية، بل وغيبية مثل الشيطان
[8] د. هيثم طلعت، الرد على الملحدين العرب ص1
[9] Paul Vitz, Psychology of Atheism, Antimatters - Issue 6 (Vol. 2 No. 4) December 2, 2008
[10] منير أديب، الإلحاد بين أفكار أصحابه وهجرة أتباعه، دار مقام للنشر والتوزيع ص96

ليست هناك تعليقات :

تسمية 2

تسمية 3

تسمية 4