تسمية 1

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

لماذا تأخر داروين ؟



لماذا تأخر داروين ؟


يحكي العالم التطوري ستيفن جاي جولد في إحدى مقالاته[1] عن سبب تأخر داروين في الإعلان عن نظريته في التطور، وأنه ليس من الطبيعي أن يتأخر في تأليف كتابه أصل الأنواع عشرين سنة تقريبًا، وأن تبرير ذلك بأنه كان يسعى للتأكد من صحة نظريته مبرر واهٍ وغير مقبول.. ثم يخبر جولد بالسبب الحقيقي لكل هذا التأخير وهو الخوف، أي الخوف من رد فعل المجتمع تجاه نظريته وتوابعها، فقد كان داروين ((مهتمًا بالفلسفة وواعيًا لما تنطوي عليه. كان يعرف أن الميزة الأساسية التي تميز نظريته في التطور عن جميع المذاهب الأخرى هي اتصافها الذي لا يهادن بالمادية الفلسفية))[2]، حيث أنه كان قد ((اعتنق أمرًا أكثر بدعية من فكرة التطور نفسها، ولكنه يخشى الإفصاح عنه: المادية الفلسفية، وهي الفرضية القائلة بأن المادة جوهر وجود الأشياء، وأن كل الظواهر العقلية والروحية ناتج عرضي. وليس ثمة فكرة أكثر إرعاجًا لأكثر التقاليد رسوخًا في الفكر الغربي من القول بأن العقل مهما كان معقدًا وقويًا هو مجرد نتاج جانبي للدماغ))[3].. ((طبق داروين بحزم في دفاتره نظرية التطور المادي على جميع ظواهر الحياة، بما في ذلك ما وصفه بـ"القلعة نفسها"، أي العقل البشري. وإذا لم يكن للعقل وجود حقيقي خارج الدماغ، فهل يمكن أن يكون الرب إلا وهمًا اخترعه ضرب من الوهم؟ كتب داروين في أحد طفاتره عن التحول: "الحب من تأثير إلهي منظم، أيها المادي... لماذا يعتقد بأنه إفراز الدماغ، وأكثر روعة من الجاذبية هي المادة؟ إنها غطرستنا، إعجابنا بذواتنا." بلغ هذا الاعتقاد من الهرطقة حتى أن داروين تجنبه في كتاب أصل الأنواع (1859) الذي غامر فيه فقط بتعليق خفي أنه "سيلقي الضوء على أصل الإنسان وتاريخه". ولم يفصح عن معتقده إلا عندما لم يتمكن من إخفائه فترة أطول في كتابيّ (نسب الإنسان، Descent of Man، 1871) و(التعبير عن العواطف في الإنسان والحيوانات، The Expression of Emotions in Man and Animals، 1872) .. سرعان ما أدرك أشد الماديين حماسًا في القرن التاسع عشر، ماركس وانجلز، ما أنجزه داروين وكانا مستعدين لاستغلال مضمونه الراديكالي. ففي عام 1869، كتب ماركس إلى انجلز عن كتاب داروين (أصل الأنواع): "على الرغم من أن هذا الكتاب كُتب بأسلوب إنجليزي صعب، فإنه يحتوي على الأسس في التاريخ الطبيعي لنظرتنا." .. وكان ماركس يضع داروين في مكانة عالية الشأن))[4]. ويحكي جولد عن مناقشات داروين مع قبطان سفينة البيجل فيتزروي: ((كانت فكرة فيتزروي الثابتة التي لا يتزحزح عنها، على الأقل في وقت لاحق من حياته، "الحجة النابعة من التصميم"، والاعتقاد بأن نِعَم الله (وحقًا وجوده بحد ذاته) يمكن الاستدلال عليها من الكمال في البنية العضوية. أما داروين فقط قبل بفكرة التصميم الممتاز ولكنه اقترح تفسيرًا طبيعيًا معاكسًا تمامًا لقناعة فيتزروي. وضع داروين نظرية التطور على أساس تغير الفرص والانتقاء الطبيعي اللذين تفرضهما البيئة الخارجية: وهي صيغة مادية للغاية (وملحدة أساسًا) من التطور))[5].

فجوهر الداروينية وقلبها النابض هو الفلسفة المادية التي ترى المادة حقيقة كل شيء، وبالتالي فلا خالق ولا إله. وبالتالي فإن تفسير التشابه بين الكائنات الحية بأنه يعود إلى الخالق الواحد الذي خلقها جميعًا ينفي تلقائيًا تفسيره بالأصل المشترك، لهذا نستطيع أن نفهم السياق الفكري أو الفلسفي الذي يجعل الخلق في مقابل التطور، وأنه من السذاجة والسطحية أن نتكلم عن تلفيق مفهوم التطور مع المنظومة الإيمانية، وأن هذا الطرح التلفيقي يجهل أو يتجاهل الأبعاد الحقيقية للنزاع بين الإيمان بالخلق والإيمان بالتطور. يقول الملحد الشهير دانيال دينيت: ((نظرية داروين نظرية علمية ونظرية عظيمة، لكن ليس هذا هو كل ما هنالك. أتباع الخلق الذي يعارضونها بمرارة محقون بخصوص شيء واحد: فكرة داروين الخطيرة تخترق بشكل أعمق بكثير النسيج الخاص بأشد معتقداتنا رسوخًا، أكثر حتى مما يعترف به المدافعون المتحذلقون، حتى لأنفسهم .. هذا الإله الرحيم الذي صوّر كل واحد منا (كل المخلوقات كبيرها وصغيرها) وزيّن السماء بالنجوم اللامعة لتبهجنا، هذا الإله هو مثل بابا نويل مجرد خرافة من خرافات الطفولة التي لا يمكن أن يؤمن بها إنسانٌ بالغٌ عاقلٌ في كامل قواه العقلية))[6].
فنظرية التطور في جوهرها وفي أساسها الفلسفي مغرقة في المادية وإنكار الخالق، فهي من أبرز مجالات الترويج للفلسفة المادية الإلحادية كما يقول التطوري الملحد ريتشارد دوكينز: ((داروين جعل الأمر ممكنا في أن تكون ملحدًا متكاملاً فكريًا))[7]، ولهذا يقول عن نفسه: ((إحساسي الشخصي أن فهم التطور هو الذي قادني إلى الإلحاد))[8]. وكذلك ينقل لاري ويتهام عن ويليام بروفين بروفيسور الأحياء بجامعة كورنيل قوله: ((التطور هو أعظم محرك للإلحاد))[9]!
في عام 2007 نشر استبيان أمريكي حول الكليات والجامعات التي تدرس علم الأحياء، فوجدوا أن 61% من المدرسين يصفون أنفسهم بأنهم ملحدين أو لاأدريين، وهي نسبة ليست فقط أعلى من نسبتهم في المجتمع الأمريكي، بل حتى أعلى من نسبتهم في سائر التخصصات العلمية[10]. ويظهر هذا التوجه الإلحادي بشكل أكثر وضوحًا بين العلماء المتميزين في الدراوينية، حيث أن 95% من علماء الأحياء في الأكاديمية الأمريكية الوطنية للعلوم NAS يعتبرون أنفسهم ملحدين ولاأدريين، وهي نسبة أعلى من أي تخصص أكاديمي آخر في الأكاديمية الوطنية للعلوم[11]. كذلك في عام 2003 نشرت جامعة كورنيل استبيانًا عن العلماء البارزين في مجال التطور، فكانت نتائجه أن 87% منهم ينكرون وجود الله، و88% ينكرون الحياة الآخرة، و90% منهم يرفضون مبدأ أن التطور موجه وذو هدف وقصد وغاية[12]. هذه الإحصائيات ينبغي ألا تكون مفاجئة لنا، فعقيدة الداروينية تنص على أن مظاهر الجمال والتعقيد والدقة والإحكام والإتقان في الكائنات الحية وأنظمتها الحيوية على جميع مستوياتها ليست آياتٍ على خلق الله وعلمه وحكمته وقدرته، بل هي نتاج عملية عشوائية غير موجهة! أو كما قال اللاهوتي تشارلز دودج المعاصر لداروين: ((يقول هيكل إن نظرية داروين في التطور تؤدي بلا مفر إلى الإلحاد والمادية. وفي هذا هو محقٌ تمامًا .. وبهذا نصل إلى إجابة سؤالنا: ما هي الداروينية؟ هي الإلحاد. هذا لا يعني بالطبع، كما قلت سابقًا، أن السيد داروين وكل من تبنوا أفكاره ملاحدة؛ لكنه يعني أن نظريته إلحادية، وأن إقصاء التصميم من الطبيعة، كما يقول د. جراي، يعادل الإلحاد)).







[1] ستيفن جاي جولد، تأخر داروين، ضمن كتاب (منذ زمن داروين – تأملات في التاريخ الطبيعي)، ترجمة د. ستار سعيد زويني، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، الطبعة الأولى 2012
[2] المصدر السابق، ص 34
[3] السابق، ص 33
[4] السابق، ص 35-37
[5] السابق، ص 47
[6] Daniel C. Dennett, 1995 (May/Jun), Darwin's Dangerous Idea, The Sciences, 35(3):34,40
[7]  Richard Dawkins, The Blind Watchmaker: Why the evidence of evolution reveals a universe without design, New York: W.W. Norton & Company, 1987, p. 6
[8]  Richard Dawkins, Interview: "The Problem with God."  2005, at:
http://www.beliefnet.com/News/Science-Religion/2005/11/The-Problem-With-God-Interview-With-Richard-Dawkins.aspx?p=2
[9]  Larry A. Witham, Where Darwin Meets the Bible: Creationists and Evolutionists in America, Oxford: Oxford University Press, 2002, p. 23
[10]  Neil Gross and Solon Simmons, “How Religious are America’s College and University Professors?” (Feb. 6, 2007), available at:
http://religion.ssrc.org/reforum/Gross_Simmons.pdf
[11]  See Larry Witham, Where Darwin Meets the Bible: Creationists and Evolutionists in America, pp. 271–273
[12]  Gregory W. Graffin and William B. Provine, “Evolution, Religion and Free Will,” American Scientist 95 (July–August 2007): pp. 294–297; results of Cornell Evolution Project survey, at:
http://www.polypterus.com/results.pdf

ليست هناك تعليقات :

تسمية 2

تسمية 3

تسمية 4