تسمية 1

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

العلم والإيمان




العلم والإيمان






بدأ الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بآية { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[1]، فكان أول تعريف بالله عز وجل لعبده ونبيه هو وصفه بأنه من خلق الخلق، لأن الخلق دليل على الخالق يعرفه ويقر به كل أحد، قال الشيخ عطية سالم: ((صفة الخلق هي أقرب الصفات إلى معنى الربوبية؛ ولأنها أجمع الصفات للتعريف بالله تعالى لخلقه))[2]. وقال البيضاوي: ((لما كان أول الواجبات معرفة الله سبحانه وتعالى، نزل أولاً ما يدل على وجوده، وفرط قدرته، وكمال حكمته))[3]. فصفة الخلق هي أبرز الصفات التي يعرفها الخلق عن الله عز وجل، وما ذلك إلا لما استقر في العقول والفطر أن الخلق يدل على الخالق. فأنت ترى أن أول آية وصلت السماء بالأرض في أول سورة نزلت من القرآن تذكر الله تبارك وتعالى بالدليل على وجوده، وهو خلقه الذي خلقهم، فلم تصفه باسم الله أو بالذي يحيي ويميت أو غير ذلك ، بل تصفه بالذي خلق لما استقر في العقول والأذهان أن الخلق يدل على الخالق، وأن كل مخلوق لابد له من خالق.
فهذا المبدأ العقلي الفطري، دلالة الخلق على الخالق، أقره القرآن وأقام عليه الكثير من المعاني الإدراكية والإيمانية من وجوب توحيده تبارك وتعالى وعبادته. وحينما أمر الله عباده بالتقوى أمرهم بها لأنه ربهم الذي خلقهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء}[4]. وحينما دعا عباده إلى اتباع أمره وشرعه دعاهم إلى ذلك لأنه هو الذي خلقهم، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[5]، ومثله قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}[6]، يقول القرطبي: (({أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أنها مخلوقاته فتستدلوا بها عليه)).
تأمل مثلاً قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[7] تجد التأكيد البالغ على أن التفكر في خلق الله يوصل إلى معرفة الله وصدق ما أتى به الأنبياء من الوعيد للكافرين، قال ابن الجوزي: ((ربنا ما خلقت هذا باطلاً، بل خلقته دليلاً عليك وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك)). فالمؤمنون يتفكرون، وكما يقول الطبري: ((فيعتبرون بصنعة الخالق، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا من ليس كمثله شيء، ومن هو مالك كل شيء ورازقه، وخالق كل شيء ومدبره، ومن هو على كل شيء قدير، وبيده الإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال، والإحياء والإماتة، والشقاء والسعادة)).
ولأن الخلق هو أوضح دلالة على الله وأبرز برهان على ربوبيته كان الأنبياء عليهم السلام يعرفون الناس ربهم بدلالة الخلق، فالله جل وعلا هو الذي خلق، فهذا إبراهيم يعرّف قومه بالله: {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}[8]. وهذا موسى يجيب عن سؤال فرعون: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[9]، ويعلق سيد قطب بقوله: ((وحين يجول الإنسان ببصره وبصيرته –في حدود ما يطيق– في جنبات هذا الوجود الكبير تتجلى له آثار قدرة الله وإبداعه وتدبيره في كل كائن صغير أو كبير، من الذرة المفردة إلى أضخم الأجسام، ومن الخلية الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة في الإنسان))[10].
فمن أراد الاستدلال على ربوبيته تعالى فلينظر في الخلق، ومن أراد برهان الوحدانية والإلوهية ومن أراد معرفة عظمة الله وقدرته وكمال صفاته فليجل بناظريه متأملاً في خلق الله حواليه، ومن أراد أن يعلم فقره وحاجته إلى الله الغني فليتأمل في صفحة الكون ليعلم حاجة المخلوقات إلى خالقها سبحانه، ومن شك في البعث والإحياء بعد الإماتة ففي الخلق ما يزيل شكه أو يزيد يقينه[11].
يقول ابن القيم: ((ومن طرق إثبات الصفات دلالة الصنعة عليها، فإن المخلوق يدل على وجود خالقه، وعلى حياته، وعلى قدرته، وعلى علمه ومشيئته، فإن الفعل الاختياري يستلزم ذلك استلزامًا ضروريًا. وما فيه من الإتقان والإحكام ووقوعه على أكمل الوجوه، يدل على حكمة فاعله وعنايته، وما فيه من الإحسان والنفع ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه وإحسانه وجوده ... فلست ترى شيئًا أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها ونعوت كماله وحقائق أسمائه، وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها فهي تدل عقلاً وحسًا وفطرةً ونظرًا واعتبارًا))[12].

العلم يؤدي للإيمان:
يظهر من كل ما سبق أن المخلوقات تدل على خالقها وتدعو للإيمان به وبوحدانيته وربوبيته وإلوهيته وكمال صفاته، وأن القرآن يقرر هذه القضية أحسن تقرير ويؤكدها أوضح تأكيد بحيث لا يدع مجالاً للشك أو الارتياب في أن الاستدلال بما في المخلوقات من إبداع ودقة وإحكام وإتقان يدل على الخالق تبارك وتعالى. ومما لا ريب فيه كذلك أن العلم بما في المخلوقات من تصميم وإحكام وإتقان ودقة بالغين يزيد المرء بصيرة وإيمانًا، ومن أبرز أدوات التعرف إلى ما في خلق المخلوقات من إحكام وإبداع العلوم الطبيعية من الفيزياء والكيمياء والأحياء، فهي أدوات تكشف لنا ما في الكون الفسيح وما في الأرض وما في الكائنات الحية خصوصًا الإنسان من آيات باهرة تدل على خالقها وتدعو للإيمان به، كما قال الشاعر:
تأمـل سطـور الكائنات فإنها :: :: من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها :: :: ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فالاستدلال بالخلق على الخالق طريقة شرعية صحيحة وعقلية صحيحة، فهي شرعية صحيحة لأن القرآن دلّ عليها وبينها وأرشد الناس إليها وهداهم إليها، وهي عقلية صحيحة لأن كون الإنسان كان بعد أن لم يكن ومولودًا ومخلوقًا من نطفة ثم من علقة لم يعلمه الناس من خبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل علموه بعقولهم سواء أخبر به النبي أم لم يخبر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يستدل به ودل عليه واحتج به، فهو دليلٌ شرعيٌ لأن الشارع استدل به وأمر أن يستدل به، وهو عقلي لأنه بالعقل تعلم صحته.
والآيات القرآنية في هذا أكثر من أن تعد وتحصى! فالمقصود هنا بيان أن العلم سبيلٌ يؤدي بالمرء للإيمان بالله الخالق كما يقول د. مصطفى محمود: ((العلم الحديث يصل إلى الله من خلال الميكروسكوب والمبضع والتلسكوب وتأمل قوانين الذرة والفلك))[13].

إله الفجوات المعرفية:
من جهة أخرى كان اللاهوتيون النصارى قديما كلما أعياهم تفسير ظاهرة ما أو حادثة ما قالوا إن سبب ظهورها أو وقوعها أو حدوثها هو الفعل الإلهي المباشر المجرد من الأسباب المادية، فقوس قزح سببه أن الله خلقه ليكون علامة على كذا، وفيضان النهر سببه أن الله خلقه لأجل كذا، وكسوف الشمس وخسوف القمر ونزول المطر وغيرها من الظواهر كانت تفسر بإرادة الله وفعله المباشر المجرد عن الأسباب المادية. فلما تطورت العلوم وعرف العلماء أن هناك أسبابًا مادية للكسوف والخسوف والمطر والفيضان وقوس قزح .. إلخ، حلت الأسباب المادية محل السبب الإلهي وتزعزعت الثقة بالله، لكن كانت ما تزال هناك ظواهر لم يتمكن العلم من تفسيرها فكانت تفسر بأن الله هو الذي سببها. لكن ظلت العلوم تتقدم وتنمو وتتطور على حساب الله، وكلما اكتشف سبب مادي لظاهرة ما، كانت مكانة الله تتآكل وتضعف عند الناس. فهذا المفهوم الذي يقوم فيه الله بتفسير الفجوات المعرفية التي لم يملئها العلم ولم تبلغها المعرفة العلمية في هذا الزمان هو المقصود بمفهوم إله الفجوات المعرفية والذي يجعل الله عرضة للنقد والتشكيك مع كل تطور وتقدم للعلوم والمعارف العلمية.
ويعتبر هذا الباب –باب الخلط بين التفسيرات الغائية الإلهية والتفسيرات الكونية الطبيعية– من أعتى أبواب الضلال في فهم الرؤية الإيمانية الصحيحة، فعندنا في الإسلام هذا المفهوم المغلوط غير موجود إطلاقًا لأننا نؤمن بأن الله قد أودع في الأشياء صفاتٍ وخصائص وأسبابًا حقيقية، والله من فوقهم بإرادته ومشيئته يُقدّر ويخلق، فإذا وجدنا لظاهرة ما سببًا كونيًا ماديًا فهذا لا ينقض خالقية الله تبارك وتعالى، بل يؤكدها ويرسخها. فلاشك أن الله عز وجل هو الخالق، وأن الأسباب المادية من خلقه، لكن الله عز وجل جعل للكون نظامًا، وجعل من نظام خلقه أن الأسباب بالفعل مؤثرة بمسبباتها، وكل ذلك يرجع إلى تقدير الله وخلقه، وعليه فالأسباب ومسبباتها من خلق الله عز وجل، والإيمان بقدرة الله لا ينافي الأخذ بالأسباب المادية، فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل الغار وشاور الطبيب ولبس الدرع وحفر الخندق ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي وهو مشرك وقال : ((إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس)).

الآن عندما ننظر إلى تاريخ العلم في الغرب وننظر كيف كان العلماء الغربيون في الماضي يفسرون الظواهر الطبيعية مثل شروق الشمس وغروبها وحدوث البرق والرعد وغيرها بأسباب غيبية، وكيف أصبح تفسيرها بالأسباب المادية الطبيعية الآن، يمكننا أن نفهم كيف تشربت قلوب المنكرين للغيب هذه الشبهة الخطيرة. والحقيقة أنه لا تعارض بين الأسباب الغيبية والأسباب المادية، فيجوز أن يكون الشيء الواحد له أكثر من سبب غيبي أو مادي، بالضبط كما نرى أن معظم الظواهر والحوادث التي تقع في العالم لها أكثر من سبب مادي بلا تعارض بينها، فكذلك وجود أسباب غيبية كذلك مع الأسباب المادية لا يفيد التعارض والتناقض إطلاقًا. أذكر أني كنت أناقش عددًا من طلبة الجامعة في هذه المسألة فضربت لهم مثلاً بالطالب الذي يرسب في أحد الاختبارات، قد يكون لهذا الرسوب أسبابًا مادية عديدة مثل أنه لم يستذكر كل دروسه قبل الاختبار وأنه ظل ساهرًا فترة طويلة فبالتالي لم ينل نصيبه من النوم قبل الذهاب للاختبار وأن الاختبار نفسه كان صعبًا أو أسئلته طويلة تحتاج إلى وقت طويل للإجابة وأن وقت الإجابة لم يكن كافيًا .. إلخ.. فنحن نعزو رسوب هذا الطالب لكل هذه الأسباب المادية ثم لا نرى في تعدد هذه الأسباب أي تعارض أو تناقض ولا يستوجب قبولنا لأي سبب أن ننفي ما عداه من الأسباب، فكيف لو أضفنا إليها بعض الأسباب الغيبية مثل أنه لم يسأل الله التوفيق ولم يطلب منه العون وأنه لم يؤد صلاة الفجر قبل الاختبار وأنه خاطب أمه بكلمات غير مؤدبة وذهب للاختبار وقلبها ساخط عليه .. إلخ.. فهل تتعارض هذه الأسباب الغيبية مع المادية؟ أليس الأقرب للعقل أنها لا تتعارض ولا تتناقض ولا ينفي بعضها بعضًا؟
فأين يقع الإشكال إذن؟ يقع الإشكال عندما نتصور أن معرفة الأسباب المادية الطبيعية الكونية ينفي بالضرورة الأسباب الغيبية، كقول عالم الكونيات شين كارول Sean Carroll: ((على مدار الخمسمائة عام الماضية، كان تقدم العلم يعمل على انتزاع أدوار الله في العالم. لم يعد مطلوبًا ليظل كل شيء في حالة حركة، أو ليخلق تعقيد الكائنات الحية، أو ليفسر سبب وجود الكون ... من ألفي عام، كان من تمام العقل أن نُدخل الله كتفسير للظواهر الطبيعية، الآن نحن نستطيع أن نفعل أفضل من ذلك))[14]. أو كالمقولة الشهيرة لستيفن هوكينج في كتابه الأخير (التصميم العظيم) والتي طارت بها الصحف والمجلات ومواقع الانترنت: ((الكون ليس بحاجة إلى إله ليخلقه))[15].
المقصود بهذا أنه في مقابل الفهم الإيماني للظواهر الكونية الذي يراها آيات ودلائل وبراهين على وجود الله وقدرته وحكمته وقيوميته وقاهريته، هناك الفهم المادي الإلحادي الذي يراها لا تدل على الله، وليست برهانًا على الإيمان والتفكر فيها لا يؤدي إلى اليقين الإيماني، بل ربما العكس! ونحن بحاجة إلى التعرف إلى الرؤية الإلحادية للعلم حتى نكون على بصيرة عند تناول مسائل تتعلق بالنظريات العلمية المطروحة وعلاقتها بالدين.
عندما نفهم الفلسفة الإلحادية في تفسير نشأة الكون وظواهره وتفسير نشأة الحياة وتنوعها، وأنها تدعو إلى إنكار وجود الله وسيادة التفسيرات المادية المحضة، وأن كل هذه الظواهر إنما تمت بدون فاعل بل بالقوانين المادية وحدها، وفي المقابل نفهم الفلسفة الإيمانية في تفسير وجود الكون والحياة وجميع الظواهر الطبيعية، وأنها لا تقوم إلا بفعل فاعل خالق عليم قدير حكيم خبير، وأن الأسباب المادية ليست إلا وسائط لا تعمل إلا بفعل الفاعل، عندما نفهم هاتين الفلسفتين نستطيع أن نميز بينهما، وأن نحذر من بعض الدعاوى التي يطلقها البعض ممن لم ينفذ إلى عمق النزاع بين الفلسفتين، ولم يكن له من العلم والبصيرة ما يمنعه من الوقوع في الخطأ والزلل. عندما يكون المسلم على بصيرة بالرؤية الإيمانية الصحيحة لا يمكنه أن ينخدع بقول بعض العلماء الطبيعيين الذين يحاولون التلفيق بين الدين والعلم أن العلم ليس له علاقة بالدين، وأن العلم لا يدل على الله ولا يؤدي للإيمان، كقول فرانسيس كولينز: ((الله خارج الطبيعة، وبالتالي فالعلم لا يستطيع أن يثبت أو ينفي وجوده)) [16]، فالله عند كولينز مجرد فرضية زائدة لا يحتاجها العلم لتفسير وجود الكون أو وجود المخلوقات، ونحن باستطاعتنا تفسير جميع ظواهر العالم تفسيرًا إلحاديًا دون الحاجة إلى افتراض وجود إله خالق مدبر قيوم. لدرجة أني قرأت على بعض صفحات التواصل الاجتماعي كلامُا لبعض الباحثين العلميين في بلاد المسلمين يدعو فيه إلى تبني فكرة أن العلم محايد لا يدعو إلى الإيمان ولا الإلحاد، وهذه نغمة تتصاعد يومًا بعد يوم بين شباب المسلمين، وبدأ أفرادٌ من هنا وهناك ينتصرون لها ويدافعون عنها. وهل هناك أسوأ من أن يقال لنا إن العلم لا يؤدي إلى الإيمان وأن آيات الله في الكون وجميع المخلوقات في الحقيقة لا تدل عليه وأنه لا يمكن معرفة وجود الله عن طريق تأملها وتدبرها والتفكر فيها؟
فهذا المنظور الإلحادي هو الذي يريد بعض العلماء الطبيعيين أن يروجوه بين المسلمين زاعمين أنه يحفظ للدين قدسيته وسلامته وصيانته من التشكيك والاعتراض، وهو في جوهره مناقض للرؤية الإيمانية ومناصر للرؤية الإلحادية. وفي ضوء هذا المنظور يمكننا أن نفهم سر الهجوم العنيف الذي شنه ملاحدة الغرب على البروفيسور أنتوني فلو Anthony Flew الذي ترك الإلحاد واعتنق المذهب الربوبي، حتى أنه يقول: ((لقد اتهمني رفاقي من غير المؤمنين بالغباء والخيانة وخرف الشيخوخة وكل ما يمكنك تخليه، ولم يقرأ أيهم كلمة واحدة مما كتبته))[17].
فالحقيقة أن الفارق بين الإلحاد والربوبية ليس كبيرًا كما يتصور البعض، بل المذهبان سواءٌ حربٌ على الدين وعلى تعبيد الخلق لرب العالمين. إنما خطيئة فلو الكبرى هي أنه استدل بالعلم على وجود الإله، وأشار إلى ما في قوانين الكون وما في تعقيد الشفرة الوراثية من دلالات على الخالق، وهو انحيازٌ كاملٌ للفلسفة الإيمانية وانقلابٌ عنيفٌ على الفلسفة الإلحادية التي تنكر هذا المسلك. فكان جزاؤه لأجل إتباعه لهذا المسلك عند الملحدين هو تدمير مصداقيته بالكلية واتهامه بالغباء والخيانة وخرف الشيخوخة! فليت عزيزي القارئ الذي يقرأ هذه الكلمات يتبصر ويستوعب مناط الخلاف ومحور النزاع ومدار الصراع الدائر بين الإيمان والإلحاد، وأن الأمر لا يتعلق فقط بالإيمان بالخالق فقط، بل بطريقة التفكير والعقلية الإيمانية التي تتأمل ظواهر هذا العالم وتستمد منها إيمانها، ويؤدي تدبر هذه الظواهر وتأملها والتفكر فيها إلى زيادة الإيمان في القلب وتقويته. فعن طريق قطع العلاقة بين العلم والإيمان لا ينقطع فقط سبيل الاستدلال بالخلق على الخالق أو الاستدلال بالعلم على الإيمان، بل كذلك سبيل النظر والتفكر والتدبر والتأمل في الكون والحياة والمكتشفات العلمية التي تتجدد يومًا بعد يوم، فبدلاً من أن تصبح بابًا لترسيخ الإيمان في النفوس تصبح سبيلاً إلى الجحود والإنكار.


[1] سورة العلق: آية 1
[2] أضواء البيان ج9 ص14
[3] تفسير البيضاوي ج5 ص509
[4] سورة النساء: آية 1
[5] سورة الأعراف: آية 54
[6] سورة يونس: آية 3
[7] سورة آل عمران: آية 190-191
[8] سورة الأنبياء: آية 56
[9] سورة طه: آية 49-50
[10] سيد قطب، في ظلال القرآن، الطبعة الثانية عشرة 1986، دار الشروق، ج4 ص2338
[11] أسماء الله الحسنى الدالة على الخلق والإبداع وإعادة الخلق، أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم، سلسلة منشورات أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم 5، دار الخلفاء الراشدين، ج2 ص113
[12] ابن القيم، مدارج السالكين، ج3 ص354
[13] د. مصطفى محمود، الله، الطبعة السابعة، دار المعارف، ص76
[14] Sean Carroll, Does the Universe Need God? available at (last accessed Oct. 2015):
http://preposterousuniverse.com/writings/dtung/
[15] Stephen Hawking: God was not needed to create the Universe
http://www.telegraph.co.uk/news/science/science-news/7976594/Stephen-Hawking-God-was-not-needed-to-create-the-Universe.html
[16]  Francis S. Collins, The Language of God – A Scientist Presents Evidence for Belief, Free Press, New York London Toronto Sydney, July 7 2006, p. 165
[17] Wavell, Stuard (19 December 2004), "In the beginning there was something", The Sunday Times (article).

ليست هناك تعليقات :

تسمية 2

تسمية 3

تسمية 4