سلسلة : نظرية التطور ، رؤية نقدية (2) التطور الصغير
التطور الصغير
Microevolution
كان
من المفروض أن يؤدي اكتشاف الحمض النووي DNA إلى تغير الكثير من اصطلاحات علم الأحياء ، وهو بالفعل قام
بتغيرها ليس لتكون أكثر دقة ، بل لتكون أكثر مراوغة ! تكمن الخدعة الرئيسية
للتطوريين في مسألة التلاعب بالألفاظ والمصطلحات ، فهم لا يستعلمون المصطلحات بنفس
المعاني التي توحي بها ، لهذا من الضروري تحرير المصطلحات لدى طرفي النزاع
(القائلين بالخلق المباشر والقائلين بالتطور) حتى يكون البحث على أسس وقواعد سليمة
.
سنبدأ
بأول مصطلح وهو تركيب الحمض النووي DNA structutre لأنه مفتاح بقية المصطلحات ، والمقصود به أن كل كائن حي على وجه
البسيطة أو تحت أديمها ، سواء كان ما يزال موجودًا أو صار منقرضًا ، وسواء كان
حيوانًا أو نباتًا أو باكتيريا ، لديه تركيب فريد من الحمض النووي unique DNA structure . كون تركيب الحمض النووي فريدُا لكل كائن
يعني أنه يملك هيكل مخصوص لترتيب وتراص الجينات على الشريط الوراثي لا يشاركه فيه
كائن آخر .
هذا
التركيب للحمض النووي هو الذي يحدد ماذا سيكون هذا الكائن الحي وما هو شكله وما هي
وظائفه الحيوية وما هي قدراته ، فتركيب الحمض النووي لدودة القز يختلف تمامًا عن
ذلك الذي للفأر وعن ذلك الذي لزهرة عباد الشمس . فمثلاً لو لدينا حيوانان يحتوي
الحمض النووي لكل منهما على 10 آلاف جين لها نفس الوظيفة والترتيب والمواضع داخل
الشريط الوراثي ، فهذا يعني أن هذان الحيوانان لهما نفس تركيب الحمض النووي حتى لو
كانا مختلفين ظاهريًا مثل الكلب الدانماركي الضخم Great
Dane والكلب الشيواوا Chihuahua .
هذا
يقودنا إلى المصطلح الثاني وهو النوع species ، وحقيقته أن كل تركيب مخصوص للحمض النووي يميز نوعًا مخصوصًا من
الكائنات الحية ، فإذا كان لكائنين نفس تركيب الحمض النووي فهذا يعني أنهما من نفس
النوع . وإذا اختلفا في تركيب الحمض النووي ، فهذا يعني أنهما من نوعين مختلفين .
وكما ضربنا المثال بالكلب الدانماركي الضخم والشيواوا ، هما كذلك من نفس النوع
لأنهما يملكان نفس تركيب الحمض النووي رغم اختلاف الصفات داخل هذا التركيب ، فهما
من نوع الكلاب رغم أنهما ينتميان لسلالتين مختلفتين . فعندما نقول إن الكلب
الدانماركي الضخم والكلب الشيواوا من نفس النوع ، فنحن لا نعني أن الشريط الوراثي
متطابق في كل نيوكليوتيدة ، بل نقصد أن هيكل ترتيب وتراص الجينات داخل الشريط
الوراثي وطول ووظيفة كل جين متماثلة مع وجود اختلاف في الصفات التي تحملها هذه
الجينات .
ولنضرب
مثالاً يقرب المفهوم إلى الأذهان ؛ نحن نعرف أن السيارات كلها ذات أربع عجلات ،
لكن هذه العجلات تختلف في الشكل والمواصفات من سيارة لأخرى ، إنما هذا لا يغير من
حقيقة كونها سيارة في نهاية المطاف . كذلك تركيب الحمض النووي هو نفسه في النوع
الواحد مع اختلاف صفات الجينات فجين لون العينين مثلاً موجود في كل الناس ، لكن
اللون نفسه يختلف من شخص لآخر ، فهناك من يحمل جين اللون الأسود ومن يحمل جين
اللون الأزرق أو البني أو الأخضر ، لكن كل هذه الاختلافات تقع داخل النوع الواحد
وليست بين نوع وآخر . كذلك لكي يكون الكلب الدانماركي الضخم والشيواوا من نفس
النوع لابد أن يكون الحمض النووي لكل منهما له نفس الطول ونفس منظومة الجينات ،
وهذا هو الحاصل في الواقع . بينما تركيب الحمض النووي من الجينات الذي يميز الأسد
يختلف تمامًا عن ذلك الذي يميز زهرة الأوركيد في طول الشريط الوراثي ومنظومة
الجينات المتراصة عليه ، وذلك لأنهما ليسا من نفس النوع .
فالمقصود
بالنوع وتركيب الحمض النووي هو نفس الشيء ، ولا فرق بينهما في حقيقة الأمر ، وكل
منهما يدل على الآخر .
يضاف
إلى هذا أنه في الكائنات التي تتزاوج جنسيًا عن طريق تلاقي الذكر والأنثى لابد من
توافق تركيب الحمض النووي لكل منهما حتى يحدث تخصيب البويضة بالحيوان المنوي ،
سواء حدث هذا التخصيب في الطبيعة أو في أنبوبة اختبار . ما الداعي لذكر أنبوبة
الاختبار هنا ؟ السبب هو التنوع الجيني داخل النوع الواحد مما يؤدي إلى ظهور
سلالات مختلفة ظاهريًا بشكل كبير ، وهنا يصلح مثالنا عن الكلب الدانماركي الضخم
والكلب الشيواوا ، فهما سلالتان من نفس نوع الكلاب ، والتزاوج بينهما غير ممكن في
الطبيعة نظرًا للاختلاف الكبير في الحجم ، لكنه يمكن حدوثه في أنبوبة اختبار
بالمعمل نظرًا لتوافق تركيب الحمض النووي ، ويكون الناتج هجينًا يحمل صفات الأبوين
.
المصطلح
الثالث هنا هو التطور الصغير microevolution ويُقصد به أنه عند تلاقح ذكر وأنثى من نفس النوع ، فإن ذريتهما
يكون لها نفس تركيب الحمض النووي وتنتمي إلى نفس النوع ، لكن صفات هذه الذرية
تختلف عن كل من الأبوين ، فلا يكون الأبناء صورة طبق الأصل من الأب أو من الأم ،
بل هجين بينهما . فالتطور الصغير يشير إلى التنوع والاختلاف داخل النوع الواحد من
الكائنات الحية وإلى التنوع والاختلاف داخل نفس تركيب الحمض النووي . يجدر بنا في
هذه النقطة أن نذكر بأننا قصدنا بتركيب الحمض النووي الذي يميز نوع معين أن الحمض
النووي للشريط الوراثي له نفس الطول والهيكل البنائي ونفس منظومة الجينات ومواضعها
، لكن النيوكليوتيدات في الجين الواحد قد تختلف لتعطي صفات مختلفة وأنماط مختلفة
من هذا الجين ، وضربنا المثال بالجين المسئول عن لون العينين ، فقد يحمل اللون
الأسود أو الأزرق أو الأخضر أو العسلي .. إلخ .. لأجل هذا قد يبدو كائنان متماثلين
أو مختلفين قليلاً أو مختلفين تمامًا رغم انتمائهما لنفس النوع .
وهذا
هو نفس ما يحدث مع الكلاب (كنوع) . فما يحدث في التطور الصغير عند تزاوج الذكر
والأنثى – سواء في الطبيعة أو في أنبوبة اختبار – وإنجابهم ذرية قادرة على التكاثر
بدورها ، هو أن الحمض النووي للأبناء يكون خليطًا من الحمض النووي للأبوين ، لأنهم
سيحصلون على شريط من الأب وآخر من الأم ليكون الشريط الوراثي المزدوج الذي سيكون
له نفس تركيب الحمض النووي للأبوين والذي يميز نوع الكلاب . ورغم أنهم سيبدون
مختلفين عن أبويهم إلا أنهم يحملون نفس تركيب الحمض النووي وينتمون لنفس النوع .
نفهم
مما سبق أن التطور الصغير لا يخلق أنواعًا جديدة ، لكنه قادر على خلق أفراد جديدة
من نفس النوع أو سلالات جديدة داخل النوع الواحد ، وهؤلاء الأفراد أو السلالات
الجديدة يملكون نفس تركيب الحمض النووي وينتمون لنفس النوع . قد يكون للأبناء
ألوان مختلفة أو أحجام مختلفة أو أشكال مختلفة ، لكنهم سيظلون – مثلاً – كلابًا من
نفس نوع الكلاب ، وسيظل لهم نفس تركيب الحمض النووي بكل خصائصه ومواصفاته المميزة
للنوع .
عندما
نرى خصائص ظاهرية بارزة وسمات مميزة لمجموعتين من الحيوانات التي تحوي نفس تركيب
الحمض النووي ، فنحن نشير إليهم بأنهما سلالتان مختلفتان . مثال : الشيواوا
والدانماركي الضخم سلالتان مختلفتان من نوع الكلاب . أو بتعبير آخر ، السلالات
المختلفة لها نفس تركيب الحمض النووي ، لكنها لا تملك نفس ترتيب النيوكليوتيدات في
الجينات داخل هذا التركيب . الجين في الشريط الوراثي قد يكون غاية في الطول ، لكنه
يتكون من أربعة أصناف من النيوكليوتيدات A C G
T في الحمض النووي DNA . يؤدي
التطور الصغير إلى وقوع تغير في ترتيب النيوكليوتيدات داخل الجينات ، مما قد يؤدي
إلى ظهور صفات مختلفة مثل تغير لون الفراء في الكلب ، لكن طول الجين وعدد
النيوكليوتيدات فيه يظل ثابتًا كما هو .
فحقيقة
التطور الصغير أنه عبارة عن تغير يقع في المظهر الخارجي أو الوظائف الحيوية أو
القدرة على التكاثر أو تتابع النيوكليوتيدات داخل الجين الواحد ، لكنه لا يشمل
التغير في تركيب الحمض النووي المميز للنوع . وبينما يقوم تركيب الحمض النووي
بتحديد كل نوع ، يقوم ترتيب النيوكليوتيدات داخل الجينات بتحديد التنوع
والاختلافات بين سلالات النوع الواحد ، وهذا هو التنوع هو المقصود بالتطور الصغير
. فخلاصة الموضوع أنه مع التطور الصغير لا توجد أنواع جديدة ، قد توجد سلالات
جديدة ، أما أنواع جديدة فلا ! نشوء أنواع جديدة يتطلب وقوع التغير في تركيب الحمض
النووي نفسه ، وهذا ما سوف نناقشه عند الكلام عن التطور الكبير في المقال القادم .
باختصار
فإن مصطلحات النوع وتركيب الحمض النووي والتطور الصغير كلها تدور حول نفس الشيء ،
وهو نفس النوع أو نفس تركيب الحمض النووي ، فلو هناك كائنان على وجه الأرض من نفس
النوع لكنهما يبدوان مختلفين ظاهريًا ، فهذا يعني أنهما ينتميان لسلالتين مختلفتين
، والسلالات تظهر عن طريق التطور الصغير .
من
المهم جدًا أن نستوعب مفهوم النوع الذي يملك جميع أفراده نفس تركيب الحمض النووي
لأنه سيقودنا إلى نقطة مهمة بخصوص الذرية القادرة على الإنجاب والتكاثر ؛ فإذا
تزاوج ذكر وأنثى من نفس النوع لكن من سلالات مختلفة ، هل ستكون ذريتهما قادرة على
الإنجاب ؟ الإجابة هي نعم ، لأن تركيب الحمض النووي عند تخصيب بويضة الأنثى
بالحيوان المنوي الذكري سيكون متوافقًا ، وبالتالي سيتكون شريط وراثي يمكنه نقل
صفاته لأجيال أخرى مقبلة . لكن هل سيبدو الأبناء مثل الآباء في هذه الحالة ؟ هنا
الإجابة ليست بالضرورة نعم ، فقد يشبهون أحد الأبوين أو لا ، وقد يشبه أحدهم أحد
الأبوين في صفة أو أكثر ولا يشبهه في البقية ، وقد تكون بعض صفات بعض الأبناء
مختلفة تمامًا عن صفات الأبوين ، وباب الاحتمالات مفتوح على مصراعيه . والحقيقة أن
القائمين على تربية الحيوانات والطيور وغيرها لديهم خبرة كبيرة في تزويج السلالات
المختلفة وتهجينها لإخراج سلالات ذات صفات معينة ومميزة ومخصوصة ، لكنهم يدركون
جيدًا أن هناك حدودًا لهذا التهجين الانتقائي ، وذلك لأنه لا توجد جينات جديدة
يمكن إضافتها من الخارج ، بل هم محكومون بالجينات المتاحة في تركيب الحمض النووي
للنوع . فالقضية المحورية هي أن الأبناء الناتجين عن تزاوج الذكر والأنثى من
سلالتين مختلفتين سيكونون من نفس النوع ولهم نفس تركيب الحمض النووي كأبويهم ،
وسيكونون بالتالي قادرين على الإنجاب في الظروف الطبيعية ، وستكون ذريتهم المستقبلية
من نفس النوع ، لكن لا يشترط أن تكون من نفس السلالة .
في
هذا الإطار نستطيع أن نضع عصافير داروين Darwin's
finches كمثال على التطور الصغير . كل هذه العصافير تنتمي
لنفس النوع وتملك نفس تركيب الحمض النووي ، لكن كل سلالة منها تحمل صفات مختلفة
على جيناتها مما أدى إلى وجود اختلافات بينها في العديد من الصفات مثل حجم ولون الريش
وقوة وشكل المنقار . الانتخاب الطبيعي أو قانون البقاء للأصلح يمكن تطبيقه على هذه
العصافير المختلفة نظرًا لوجود هذه الاختلافات فيما بينها . هذا القانون (الانتخاب
الطبيعي أو البقاء للأصلح) في الحقيقة يصلح تمامًا في إطار التطور الصغير .
قبل اكتشاف
الحمض النووي DNA لم تكن هناك وسيلة للتميز بين التطور الصغير
microevolution والتطور
الكبير macroevolution ، ولأجل هذا
كانت تعتبر عصافير داروين أمثلة سليمة على صحة التطور في أيام داروين . أما الآن فنستطيع
تصنيفها كأمثلة على التطور الصغير . بعد اكتشاف الحمض النووي ، أدركنا أن عصافير
داروين تقع في نفس النوع لأن الحمض النووي فيها يختلف فقط في إطار التطور الصغير .
قد يعتبرون سلالات مختلفة ، لكنهم من نفس النوع . وهذا ما نود تنبيه القارئ الكريم
إليه ؛ فإن التطور الصغير في أيام داروين كان يُشار إليه باسم التطور evolution لأن الحمض النووي كان مجهولاً ومصطلح التطور
الصغير لم يكن قد ظهر إلى الوجود .
اختلاف تتابعات
النيوكليوتيدات يمكنه أن يخلق أحجام وأشكال ووظائف مختلفة لمناقير العصافير وأنماط
وألوان مختلفة للريش وغيرها من الاختلافات ، لكنه لا يقدر أن يخلق نوعًا جديدًا
تمامًا لأن كل عصفور سيكون له نفس تركيب الحمض النووي . نعم ، يستطيع التطور
الصغير أن يؤدي إلى إمكانيات أفضل للبقاء والتكيف ، ثم يقوم الانتخاب الطبيعي
بعمله على التطور الصغير . مفهوم البقاء للأصلح لا ينطبق إلا في حدود التطور
الصغير . كان داروين مخطئًا في اعتبار العصافير أنواعًا مختلفة ، لكنه توفى قبل
اكتشاف الحمض النووي فهو معذور من هذه الجهة ، ولم يكن هناك مصطلح يصلح لوصف
مشاهداته إلا التطور .
المسألة المهمة
في هذه المقالة هو التأكيد على حقيقة أن التطور الصغير لا يمكنه خلق أنواع جديدة ؛
أي: لا يمكنه خلق تركيب جديد للحمض النووي سواء كان أطول أو يحتوي جينات جديدة أو
منظومات جينية جديدة . وبما أن تركيب الحمض النووي سيكون ثابتًا ، فإن الذرية
ستكون من نفس النوع لا غير . التطور الصغير لا يغير طول الحمض النووي ، ولا يغير
عدد الجينات ، ولا وظائف الجينات ، ولا أطوال الجينات ، لكنه يستطيع أن يؤثر على
مواضع النيوكليوتيدات داخل الجين . وبالتالي فهو لا يمكنه خلق أنواع جديدة أو
تركيب جديد للحمض النووي ، لكنه يستطيع أن يؤثر على المظهر الخارجي للحيوان أو
النبات وأن يخلق سلالة جديدة ضمن سلالات النوع الواحد .
لو وضع العلماء
أنواعًا مختلفة من الحيوانات ، ذكورًا وإناثًا ، على كوكب بعيد يحوي الهواء
والغذاء وتركوهم لملايين السنين ، ثم عادوا إليها لوجدوها قد تكاثرت وتنوعت إلى
العديد من الأشكال والأحجام والألوان ، لكن كل نوع من الحيوانات سيكون له نفس
تركيب ونفس طول الحمض النووي الذي كان عليه أسلافه الذين جاؤوا الكوكب أول مرة ،
وسيكون الحمض النووي له نفس الحجم والطول والوظائف ، إنما سيقع التنوع والاختلاف
داخل الجينات أنفسها ، وليس في طول الحمض النووي أو تركيبه .
ليست هناك تعليقات :