سلسلة : نظرية التطور ، رؤية نقدية (4) تابع: التطور الكبير
تابع : التطور الكبير
لم يسبق لأحد
من العلماء أن شاهد نشوء نوع جديد من الكائنات الحية ، لهذا فهم ليس لديهم علم
حقيقي بكيفية نشوئها . رغم هذا سوف نقوم بافتراض – على سبيل المجاراة – أن الطفرات
تؤدي بكيفية ما إلى نشوء نوع جديد يشتمل على ذكر وأنثى يحمل كل منهما تركيبًا
جديدًا تمامًا للحمض النووي ، وسوف نتناولها بالتفصيل من الناحية الرياضية
والإحصائية إن شاء الله في أحد مقالات هذه السلسلة .
وكما تكلمنا عن
التطور الكبير فدعونا نضع له تعريفًا مناسبًا ؛ التطور الكبير هو نشوء نوع جديد من
الكائنات الحية عن طريق التغيرات العشوائية في تركيب الحمض النووي في أبوين من نوع
آخر موجود مسبقًا أو في الحمض النووي للأبناء أنفسهم أو عن طريق تزاوج نوعين
مختلفين مما يؤدي إلى نشوء تركيب جديد تمامًا ومختلف عن الأبوين للحمض النووي ، أي: نشوء نوع جديد . وحسب هذا التعريف فإن
التركيب الجديد للحمض النووي يقتضي نشوء جين جديد واحد على الأقل على الأقل يكون
فعالاً وظيفيًا ، أي: يقوم بتخليق بروتين مفيد ونافع وله وظيفة داخل الخلية .
التطور الكبير
يقع عندما ينشأ نوع جديد – أي: تركيب جديد للحمض النووي – عن طريق الطفرات
العشوائية في الحمض النووي للذكر أو للأنثى أو كلاهما قبل التزاوج ، أو في الحمض
النووي للأبناء بعد التزاوج ، أو تزاوج ذكر وأنثى من نوعين مختلفين لينجبا أبناء
من نوع ثالث جديد تمامًا ومختلف . ومن الجدير بالذكر في هذا المقال أن نؤكد على
فكرة أن وقوع التطور الكبير من نوع يشتمل على ذكر وأنثى مستبعدٌ تمامًا نظرًا للكم
المهول من المصادفات العشوائية المتجانسة المطلوب توافرها في الطفرات الجينية
المفترض وقوعها في الحمض النووي للأبوين أو للأبناء ، إنه احتمال أبعد بمراحل من
احتمال تلاحم قطرتين من ماء المطر في المحيط بينهما مسافة ألف كيلومتر ! في إطار
نظرية التطور ، فإن الطفرات العشوائية للحمض النووي سواء قبل أو بعد أو أثناء
التزاوج والتخصيب هي السبيل الوحيد لنشوء نوع جديد ، وهذا ما لم يسبق رصده علميًا
على الإطلاق .
ننتقل الآن إلى
الكلام عن تعريف التطور من وجهة نظرنا ، فكيف نعرفه إذن ؟ مصطلح التطور كان
موجودًا قبل اكتشاف الحمض النووي ، وبالتالي فنحن بحاجة إلى التفكر في معناه بعد
اكتشافه . يدور مفهوم التطور حول نشوء الإنسان من الخلية الحية الأولى ، لم يكن
داروين يعلم ماهية الخلية الحية الأولى في زمنه ، ولا حتى الآن بالمناسبة ! لكنه
افترض أن كل نوع من الكائنات الحية تطور عن نوع آخر بدائي عنه ، وهذا ينطبق على كل
الحيوانات والنباتات . لم يكن داروين يعلم شيئًا عن الحمض النووي ، وبالتالي
فعلماء اليوم عليهم أن يقوموا بتأويل نظريته في ضوء الاكتشاف الجديد ، فقالوا إن
الحمض النووي البشري تطور عن حمض نووي صغير وقصير وبدائي في الخلية الأولى عن طريق
آلاف الأنواع الوسيطة ، وفي كل مرحلة من مراحل التطور كان الحمض النووي للنوع
الجديد يزداد طولاً عن أسلافه مع وضع في الاعتبار أن يكون أرقى من هؤلاء الأسلاف .
عند هذه النقطة نلاحظ أن مفهوم التطور الذي وضعه داروين وتم إعادة تخريجه بعد
اكتشاف الحمض النووي يتطابق مع ما نعرفه نحن باسم التطور الكبير .
يُعرف التطور
الكبير بأنه الوسيلة التي يتم بها ارتقاء الأنواع ونشوء أنواع جديد ، ويدور مفهوم
التطور الدارويني حول فكرة أن العديد من الأنواع الوسيطة المتتابعة تنشأ خطوة
بخطوة حتى يخرج إلينا الإنسان منحدرًا من الخلية الأولى ، وكل نوع وسيط في هذه
السلسلة هو في الحقيقة عبارة عن نوع جديد ينشأ عن سلفه . من هنا يظهر لنا أن
مفهومي التطور الدارويني والتطور الكبير يعنيان نفس الشيء بمعنى أن تركيبًا جديدًا
للحمض النووي يتخلق منشئًا نوعًا جديدًا في كل مرة . هنا تظهر حاجتنا إلى مصطلح
التطور الكبير ليؤكد على حقيقة أن التطور الصغير لا يخلق تركيبًا جديدًا للحمض
النووي ، وكلا المصطلحين يعتمدان في تعريفهما على تركيب الحمض النووي DNA oriented ، لكن الفارق أن التطور الصغير لا يؤدي إلى
نشوء تركيب جديد للحمض النووي ، بينما التطور الكبير هو الوسيلة الوحيدة لنشوء
تركيب جديد أطول أو أحسن أو أرقى من الحمض النووي .
لكن لماذا لا
ندخل التطور الصغير داخل مفهوم التطور الدارويني ؟ يمكننا ذلك لكن المشكلة أن
التطور الصغير لا يؤدي إلى نشوء تركيب جديد للحمض النووي ، ولأجل أن تكون نظرية
داروين صحيحة لابد من أن يكون التطور قادرًا على تخليق ملايين التراكيب الجديدة
المتتابعة من الحمض النووي ، وهذا ما لا يحققه التطور الصغير إطلاقًا ، وليس هو
مقصود التطوريين عند الكلام عن نظرية التطور ، ولأجل هذا فهو لا يصلح لإدخاله في
مصطلح التطور الدارويني .
نشوء نوع جديد
من نوع قديم هو قلب وروح الداروينية ، رغم أن داروين نفسه لم يكن لديه أي معرفة
بالفارق بين التطور الصغير والتطور الكبير . نعم ، هو لاحظ التطور الصغير وسماه
تطورًا ، لكن جوهر نظريته يدور حول مفهوم تطور الإنسان من أنواع أخرى أدنى ، مثل
الرئيسيات ، وهذا يتطلب أن يكون التطور الكبير حقيقة ثابتة . فرغم أن داروين
استعمل لفظ التطور ليشير إلى أمثلة من التطور الصغير والكبير على السواء إلا أننا
ينبغي أن نضع في الاعتبار جوهر النظرية ، ألا وهو نشوء الأنواع الجديدة من أخرى
قديمة صعودًا حتى الإنسان . فقط التطور الكبير يحقق هذا المقصود ، وبالتالي فإن
مقصود النظرية في الحقيقة لا يتفق إلا مع التطور الكبير القادر على تخليق أنواع
جديدة ، ولأجل هذا فنحن نستعمل مصطلح التطور لنقصد به التطور الكبير فقط لا غير .
ما تحتاجه
نظرية التطور لكي تكون حقيقة هو تفسير هذا الصعود أو الارتقاء من الخلية الحية
الأولى (مفهوم الخلية الأولى هو أحد فرضيات نظرية التطور) حتى الإنسان مما يتطلب
العديد والكثير جدًا من تراكيب الحمض النووي الوسيطة .
لو كان التطور
حقيقة ، فإن الحمض النووي للخلية الأولى المفترضة ينبغي أن يكون قصيرًا جدًا
وبدائيًا جدًا ، لأنه نشأ – من وجهة نظر التطوريين – عن طريق التفاعلات العشوائية
بين الماء والطين والتربة والبرق الكهربي . ففي سبيل تفسير كيف نشأ الحمض النووي
للإنسان لابد أن يوضح علماء التطور بدءًا من الخلية الأولى جميع مراحل هذا التطور
والارتقاء بالحمض النووي في الأنواع المختلفة ليصير أطول وأكثر تعقيدًا حتى نصل في
نهاية المطاف إلى الحمض النووي البشري . لكن هذا الارتقاء بالحمض النووي ليصير
أطول وأكثر تعقيدًا لا يقع إلا عن طريق التطور الكبير فقط ، لأن التطور الصغير لا
يغير من تركيب ولا طول الحمض النووي . إذن فالتطور الكبير فقط لا غير هو المسئول
عن تطور كل الأنواع على هذا الكوكب ما عدا الخلية الأولى المزعومة . وعليه فلكي نعلل
وقوع التطور فإنه يلزمنا خلق الملايين من تراكيب الحمض النووي عن طريق الطفرات
العرضية والعشوائية في الحمض النووي بما يؤدى إلى نشوء كل أنواع الكائنات الحية
الموجودة والمنقرضة .
لو عددنا كل
الجينات الفعالة في كل أنواع الكائنات الحية الموجودة والمنقرضة سنجد أنه يوجد ما
يقرب من مليار جين على وجه الأرض . رغم هذا فإنه لم يسبق رصد نشوء جين واحد فعال
جديد عن طريق الصدفة ، إنما فقط عن طريق التلاعب بالمصطلحات يقوم القوم بخداع
العوام والطلبة ليحسبوا أن هناك دليل على وقوع التطور الكبير .
باختصار فإنه
حسب نظرية التطور فإن كل نوع من الكائنات الحية ما عدا الخلية الأولى على وجه
الأرض قد نشأ عن طريق طفرات صدفية عشوائية للحمض النووي إما قبل التزاوج أو بعده
أو أثنائه .
دعنا الآن نرى
الفرق بين التطور الكبير والتطور الصغير :
التطور الصغير
لا يؤثر على تركيب الحمض النووي ، هو يؤثر فقط على تتابع النيوكليوتيدات داخل نفس
هذا التركيب ، التطور الصغير قد يخلق سلالات جديدة لكنه لا يخلق أنواعًا جديدة
لأنه لا يستطيع أن يخلق تركيبًا جديدًا للحمض النووي . وبالتالي فإن التطور الصغير
ليس له أي علاقة بنظرية داروين ، لأنه لا يغير طول أو تركيب الحمض النووي ، ولا
يمكن للبشر أن ينشؤوا من الخلية الأولى أو أي من الرئيسيات عن طريق التطور الصغير
لأن تركيب الحمض النووي سيظل ثابتًا . فلو كان التطور الصغير هو السبب لكان تركيب
وطول الحمض النووي في الإنسان مماثلاً لذلك في الخلية الأولى وفي كل الأنواع .
أما التطور
الكبير فهو قادر على خلق تركيب جديد وفريد للحمض النووي ، وهو السبيل الوحيد لنشوء
الأنواع الجديدة ذات التراكيب الجديدة للحمض النووي . وبالتالي فإن التطور الكبير
هو الوحيد القادر على خلق تركيب جديد للحمض النووي لملايين الأنواع التي عاشت أو
تعيش على كوكب الأرض .
وهذا يؤدي بنا
إلى ملاحظة أنه بهذا التفريق فكل من التطور الكبير والتطور الصغير يحمل مفهومًا
مغايرًا تمامًا للآخر ، وكل منهما يؤدي إلى نتائج مختلفة تمامًا ، فالتطور الصغير
لا ينتج عن الصدفة ولا يؤدي إلى نشوء أنواع جديدة ، بينما التطور الكبير ينتج عن
الصدفة ويؤدي إلى نشوء أنواع جديدة .
إذن لماذا
استغرقنا كل هذا الوقت وكل هذه الصفحات في التعريفات والمصطلحات ؟ الغرض من هذا هو
عدم إضاعة الوقت في جدل عقيم حول قضايا فرعية ، أو بمعنى آخر: تعريف هذه المصطلحات
يبين الفرق بين سلالة جديدة (التطور الصغير) ونوع جديد (التطور الكبير) . فلو زعم
أحد الناس أن التطور حدث في الطبيعة ، فعليه إثبات أن هناك جينات جديدة مختلفة قد
نشأت ملايين المرات من قبل مما يعني نشوء تركيب جديد للحمض النووي في كل مرة .
فإذا لم توجد جينات جديدة ، فهذا يعني أنه لا تطور هاهنا ، لأنه لكي ترتقي من
الخلية الأولى حتى الحمض النووي البشري فأنت بحاجة إلى ملايين الجينات الجديدة
الفريدة التي يتم تخليقها عن طريق الصدفة العمياء والعشوائية المحضة . هذا الجين
الجديد يجب أن لا يكون موجودًا في النوع القديم ولا بد أن يحمل وظيفة فعالة في
النوع الجديد ، أي: يقوم بتخليق بروتينات ذات وظيفة .
من المهم لقارئ
هذا المقال أن يدرك الفارق بين التطور الصغير والتطور الكبير ، وأنهما مفهومان
مختلفان تمامًا ، وأن التطور الكبير يعني زيادة في طول الحمض النووي وإضافة جينات
جديدة ونشوء نوع جديد ، وأن التطور الدارويني يساوي ويطابق مفهوم التطور الكبير ،
وأنه لا علاقة للتطور الدارويني بالتطور الصغير .
ليست هناك تعليقات :