رسالة في الموسيقى للعلامة مصطفى صبري
هذه رسالة لشيخ الإسلام للدولة العثمانية سابقًا مصطفى صبري رحمه الله عن الموسيقى والمعازف نُشرت في جريدة "بيان الحق" سنة 1910 , السنة الثانية, المجلد الثالث . جريدة كانت تصدر عن جمعية علماء الإسلام التركية . نقلها من التركية إلى الإنجليزية مُعز اوزيجيت (Muaz Ozyigit) , ونقلها فراس يوسف حسن إلى العربية بتصرف يسير أسأل الله أن ينفع بها.
==================
إذا كان رب البيت بالدف ضاربا فشيمة أهل البيت الرقص
ديننا العظيم له الرأي الحاسم المميز في كل مسألة تعرض له, بعد سبر أغوارها وكشف مخبوءاتها ومكنوناتها. فأخطر الأمور وأشنعها يمكن أن تكون مخبوءة في أحلى الأشياء وأعذبها. فحري بهذا الدين السماوي الوصول إلى الحقائق التي لا يمكن للإنسان بأي حال من الأحوال أن يصل إليها بمجهوده, وهذا ما هو متوقع من دين أنزل لخير وسعادة البشر.
فأقول: أولاً, الموسيقى عمل غير نافع, بل هو يدل على حالة لا مبالاة وسلبية.
ثانياً: هذه السعادة والمنافع المستمدة من الموسيقى تستبطن في أحشائها معنى دالاً على استعباد عاطفي. وبما أن الشرع عدوٌ للسلبية وللاستعباد العاطفي, كان لا بد له من تتبع واقتفاء آثار هذه المعاني في هذا العمق صعب الولوج.
وعلى الرغم من وجود صعوبة لدى البعض في تفهم استبطان الموسيقى لمفهوم السلبية, فإن أصحاب العقول المتنورة النيرة لن يترددوا في استيعاب هذا المفهوم وقبوله, لأنه من الصعب تخيل منفعة دنيوية أخرى للموسيقى. ولا بد ألا يتعجل المرء بالقول: كيف تزعمون هذا وهنالك ما لا يحصى من المغنيين, والعازفين في الغرب على سبيل المثال يعتاشون عليها بل يحققون الثروات الطائلة بسببها. فأقول, حتى تدعي أنك تدبرت مؤنة رزقك يجب عليك أن تتحصل عليه بطريقة لا تؤذي كرامتك الإنسانية.
لعل أحدهم يتساءل ونحن –كما يعتقد- ربما نتنقل من رأي غريب شاذ إلى آخر: أين يمكن أن تقع الأذية في كرامة الإنسان في مثل هذا العمل؟! فأقول مجدداً على المرء ألا يتعجل بإصدار الأحكام. فأعمال التسلية المحضة تعتبر من الأعمال الدنية في نظر أصحاب الفطر السليمة. فكما يدفع لهذا المغني لكي يتنازل عن شيء من كرامته في سبيل التسلية يدفع للمومس في سبيل التسلية الجنسية, حال كونها معدومة الكرامة. من هنا يتملكنا العجب والاستغراب من ذهنية بعض الآباء الذين تراهم يطيرون فرحاً وغبطة وفخراً عندما تتعلم بناتهم العزف على المعازف. ويتملكنا العجب أيضاً عندما نرى أناساً يحرصون كل الحرص على الزواج من امرأة تمتلك موهبة أو تدريباً معيناً على الآلات الموسيقية, في محاولة منهم للهاث خلف الحضارة الغربية, ظناً منهم أن ما يرفع مكانة المرأة في المجتمع ويعطيها أهمية هي هذه الموهبة المزعومة. ولعل بعضهم يقول: إن عزف المرأة على آلة موسيقية ليس بعيب ولا ينقص من قيمتها لأن من واجبها الطبيعي أن تعلق قلب زوجها بها وتسعده بصحبتها! وهذا لا يصح لأن الإسعاد في العلاقة الزوجية هو مفهوم متبادل بين الطرفين, فتخيل امرأة ترفض رجلا للزواج بها لأنه لا يملك ما تملك هي من مواهب موسيقية!
بالمقارنة مع هذا, فإن مؤلف اللحن الموسيقي والذي يعلم العازفين كيفية العزف لا يمكن أن يتخلص من ربقة ما قدمنا له, على الرغم من أن المؤلفين وللوهلة الأولى يمكن أن يقال بأنهم بعيدون عن الرزايا التي شرحناها آنفاً, قلت فن التأليف الموسيقي لا يمكن أن يتخلص من ربقة ما قدمنا له لأن الغناء والعزف وتأليف اللحن أمور لا تتفرق أبداً ساعة الأداء بل كل يعتمد على الآخر. بينما نرى الكرامة, كل الكرامة, والأنفة والعز عند من يعلّمون الناس الخير والعلم والمعرفة. ولهذه الأسباب, فإنه لمن المعيب أن يطلب مثلاً من شخصية مرموقة في المجتمع أو الحكومة أن يغني أغنية أمام الناس, بغض النظر عن مدى رقي كلماتها التي ألفت منها, واللحن الذي رافقها, لا بد وأن هذا يعتبر تحقيراً له ولمكانته ولكرامته. وعلى العكس من هذا, فإن تعليم الناس المعرفة يزيد المرء- بصرف النظر عن مكانته المرموقة- كرامة ورفعة ومكانة مرموقة بين الناس.
كل ما تمت مناقشته إلى الآن يختص بهؤلاء النفر الذين يعتاشون على الموسيقى ويتكسبون بها. أما الذي يتخذ الموسيقى كهواية, يعزف على الآلات أمام أقرانه لإمتاعهم والترويح عنهم, فإن السلبية وضياع الوقت للعازف والمستمع أمور واضحة تماماً لا تحتاج منّا لكبير عناء لإظهارها. فأثناء استماع الناس للموسيقى, لن يقدموا شيئاً لنفع البشرية , وبدلاً عن ذلك سوف يتسببون بإهدار الأموال في شراء الآلات والمعازف, فهل حصلوا على شيء في المقابل؟ وهل ساهموا بتثبيت عرى سلسلة المصالح في المجتمع؟ على الرغم من أن مصنّعي المعازف والعازفين عليها قد حصلوا على المنفعة, إلا أن سلسلة المنافع والمصالح هذه تنقطع عند عامة الناس فلا يحصلون على شيء منها.
إن إهدارك المال على الموسيقى لا يماثل كراء حصان وعربة للذهاب في نزهة, لأن ذهابك في نزهة يفيد صحتك ويقوي بدنك ومن ثم يساعدك في تكميل وظيفتك في سلسلة المصالح في المجتمع, ويفيد أيضاً قائد تلك العربة لكي يكسب المال الحلال الذي يقيم به أوده. ثم إن هذه العربات غير مخصصة تماماً للتنزه, بل هي تستعمل عادة في نقل الناس إلى وجهاتهم المختلفة. باختصار, فإن الذهاب في نزهة لا يشبه الموسيقى وعبثيتها أبداً.
لا يمكن أن يقال شيء ضدّ الموسيقى التي تستعمل في العلاج, فهي في هذه الحالة ضرورية للمريض كالهواء النقي الذي يعتبر من أهم الضرورات التي يحتاجها المريض للشفاء.
لنتكلم الآن عن وجه آخر للمتعة المتأتاة من الموسيقى, تلك التي يتخللها انغماس كبير في العواطف والمشاعر الجياشة والرغبات الجنسية: فما هو ذلك التأثير الذي يُطبِقُ على مشاعر وأحاسيس أولئك الذين يقبعون تحت حالة من الاستحثاث العاطفي الذي تحدثه الموسيقى؟ التأثير الذي تحدثه الموسيقى يمكن أن يكون بأشكال وأحوال عدة: فمع الموسيقى, فإن الفرد الذي يشعر بالعزلة والوحدة يزداد وحدة وعزلة, وتلتهب مشاعر الاغتراب في داخله. وهذا اليتيم يزداد إحساسه وأسفه لفقد والديه, وهذا المريض يزداد حسرة على حاله ومآله, وهذا الشيخ الكبير يزداد أسفاً وحسرة عندما يفكر بما مضى من عمره من أعوام عديدة طوال ولم يبق له الكثير في هذه الدنيا. أما الرجل ذو الحظ الوافر فإنه مع الموسيقى يزداد شعوره بالغبطة ومن ثم الفرح ذا المعنى السيئ. باختصار, فإن الموسيقى تلون الحقيقة وتزيفها بألوان معتمة قاتمة, لتزيد من حزن الحزين وفرحِ الفرِح. وفي هذه الحال, فإن تأثير الموسيقى يشبه تأثير الخمر, بتزييفها للحقيقة في الخارج, وإرغامها الناس تصوّرها على خلاف ما هي عليه في الواقع وفي نفس الأمر. وفوق كل هذا, فإن للموسيقى الأثر الكبير في تهييج وإثارة مشاعر الحب والجنس. لذلك نجد عادة في الحفلات الموسيقية التي تقام امرأةً فاتنة وأشربة خمر. وأكثر أسرار العلاقات الجنسية حميمية تظهر ابتداءاً بنظم شعري متخفية بغطاء الموسيقى, بنفس الطريقة التي تحاول المرأة الفاتنة إظهار مفاتنها متخفية بالحجاب. حتى الكلمات التي لا يمكن للمحبين أن يتلفظوا بها لأنها تخدش الحياء, تقال باستخدام الموسيقى والنظم. ولهذا لا تعتبر وقاحة إذا أقدم شخص على تلفظ الآتي: " أنا مجنون بها" أو " أنا على استعداد للموت لأجلها" إذا صاحبت كلماته هذه الموسيقى.
وإني لأستعجب من الأهل الذين يحرصون على تنشئة بناتهم التنشئة الصالحة يسمحون لهن بغناء كلمات الحب الماجنة, ويعتبرون ذلك مؤشراً حسناً وصفة طيبة في فتاة في عمر الزواج, على الرغم من أن مجرد التلفظ بكلمة الزواج تعتبر في مجتمعاتنا أمراً معيباً لا ينبغي للبنت أن تذكره مع أن الزواج حلال بل ومطلوب في الإسلام.
ولو أننا أخذنا كلام أحد مفكري العصر بالحسبان, حيث قال: " إن لم تَشغلِ المرأةَ دائماً, وتملأ وقتها, انشغلت بأمور أخرى لتفعلها", أقول, لو تمعنا بهذا الكلام, لرأينا النساء اللائي ينشغلن بالمعازف والآلات الموسيقية أقرب إلى التفكير بهذه المشاعر المحرمة والانشغال بها.
ولكن, هل التفكير بالحب والعشق أمر سيء؟ أي شيء غير العشق يمكن أن يهب الرجل تلك الأحاسيس الملائكية, والعاطفة الجياشة, والمشاعر الراقية؟ فالعشق قوي جداً لا يستطيع المرء معه أن يقف موقفاً معادياً وهو يسمع أنّات المحبين وتأوهاتهم ونحيبهم. نعم هذا صحيح, ولكن إذا تمعنا في العشق فإننا سنلاحظ الحقيقة التالية: ليست هنالك قضية أعوص أو أدق أو أكثر عرضة للتهجم والعداء من هذه القضية. ولم تكن مبالغة عندما سئل حجا نصر الدين (جحا) ما إذا كانت لديه معشوقة أو علاقة حب, فقال: أجل كنت في بدايات العلاقة, وفجأة دُهشنا!! ( وهو هنا يشير إلى مدى سرعة تطور العلاقة بينهما, وهذا واقع وصحيح!). وعلى الرغم من أن العشق لا يمكن إلا أن يكون متبادلاً, فإنه يعتبر مخزياً للمرأة على وجه الخصوص. والرجل لا يقدّر إلا المرأة التي تحبه, لكنه لا يعذر النساء اللواتي يحببن غيره من الرجال.
بعدما تكلمنا عما يلزم المرء من استخدامه للموسيقى, فإنه من اليسير علينا الآن أن نشمل بكلامنا قصائد الحب الغنائية, والتي تعتبر من الصيغ الشعرية الأكثر رقياً. أما لو تحدّثنا عن شعر المديح والهجاء فإنهما لا يعتبران محلا كبيراً للإطراء والتبجيل, لأن الأول نوع من التزلف والتقرّب, والثاني طريق لتتبع سوءات وعورات الآخرين. أما الشعر الذي يحمل في تعبيراته وطياته أخلاقاً حميدة, وقيماً راقية فهذا لا اعتراض عليه. فدين الإسلام يقبل الشعر الجيد ويرفض الشعر الرديء بكل أشكاله وصيغه. وعلى الرغم من أن الشعر يعتبر هو الصيغة الأدبية الأرقى للتعبير, إلا أن قلة تسامح الإسلام مع قضاياه هي الحق الأبلج لأن الضرر الذي يقع من الشعر أكثر من النفع المرجو. ولو رأينا اهتمام وتعلّق بعض طلبة العلم بالشعر فما ذلك إلا علامة على انحرافهم عن جادة الصواب, وركونهم للكسل والخمول الفكري.
لننظر إلى ما ينطوي عليه الشعر بلسان الشعراء أنفسهم, فقد قال شاعر منهم (وهو شاعر تركي):
"مادة الشعر باقية بلا نفادِ,(حتى لو انتهت الدُّنا,)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يبقى الكذب عذباً في اتقادِ"
وعندما كان يأنف الشعراء الأقدمون من الاعتراف بهذه الحقيقة المرة, جاء القرآن الكريم ليفضحهم على رؤوس الأشهاد, قال تعالى:" والشعراء يتبعهم الغاون * ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون * وأنهم يقولون مالا يفعلون" سورة الشعراء0
إلا أن الشعر أكثر أهمية من الموسيقى حيث أنه يمكن أن يساعد على اتقاد الأذهان, ويحمل قيماً يُستفاد ويُستقى منها.
قبل أن ننهي موضوع الموسيقى, لا بد أن نضيف الآتي:
إذا كان تأثير الموسيقى حقاً ضروري لرُقيِّ الروح, فإن ترتيل القرآن الكريم يخدم هذه الغاية بفاعلية كبيرة وبطريقة أكثر رقياً وانسجاما مع الروح. وهذا ما حث عليه الإسلام العظيم, فالترتيل والتغني بالقرآن الكريم حال مطلوبة في الدين الحنيف. ولا بد من ملاحظة حرمة استصحاب المعازف حال التغني بالقرآن, بمعنى آخر, فإن التغني بالقرآن ورفع الصوت فيه مطلوب ومرغوب كما هو مثبت في بعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن العلماء قالوا بحرمة استصحاب هذا التغني للآلات الموسيقية. ويمكن فهم ما يبدوا أنه تناقض بين الأمرين إذا فهمنا أمران اثنان متعلقان بالموسيقى كالتالي:
الأمر الأول:
لو طبقنا الموسيقى بقواعدها وأساليبها المعروفة, في حال تغنينا بالقرآن فإن أحكام التجويد ستتعطل. ولذلك هذا النوع من الموسيقى ذي النوتات , والقواعد محرم مع التجويد والترتيل. ولكن لو أن شخصاً أراد تجويد القرآن مع ألحان رائقة من صوته الطبيعي فإن هذا الأمر مستحسن ومطلوب. هذه سبيل مناسبة لإزالة أي نوع من الاستخفاف والإساءة بالقرآن الكريم. ولذلك نجد من يستمع إلى معزوفة موسيقية يقدّرها لذاتها وللألحان التي بثت فيها, دون الالتفات للكلمات التي رافقتها, فإن لم يفهم معاني تلك الكلمات, كأن تكون من لغة أخرى غير لغته, لم يكن هذا الأمر عائقاً أمام استمتاعه. وعلى الرغم من أن معاني الكلمات في بعض المقطوعات الموسيقية يمكن أن يُفهم أغلبها إلى حد ما, إلا أن المؤلفين الموسيقيين يسدون تلك الفجوات بتعبيرات مثل "لالا لالا لالا" ليوازنوا مقطوعتهم. ومن الواضح بأن مثل هذا العمل مع القرآن الكريم لا يمكن أن يُتصور.
الأمر الثاني:
لا يرغب أي منا أن يستمع لموسيقار أو مغني ما لا يملك الموهبة التي تؤثر في الآخرين, بينما نجد بأن الذي يمتلك الموهبة الحقيقية يؤثر في الآخرين إذا استخدم ألحانه الطبيعية بصوته هو لا بصوت الآلات التي تعلم على العزف عليها. أقول, لا يجب أن يبدو كلامنا غريباً! فقد شاهدنا من يفقد جمال وعذوبة صوته في التجويد, وهو قارئ كبير ومعروف للقرآن, بعدما نقل اهتمامه إلى تعلم العزف على الآلات الموسيقية. لذلك فإن الموسيقى والألحان الطبيعة هي أعلى مقاماً وأكثر رقياً من الموسيقى المستمدة من الآلات الصناعية لأن الأولى ارتجالية إبداعية والثانية ترديد لألحان مؤلفة مستهلكة.
يبقى أمر أخير نشير إليه:
من المعروف بأن الموسيقى المستخدمة في أمة من الأمم وحضارة من الحضارات لا تروق لأمة أخرى وحضارة أخرى. وهذا يعني بأن تأثير الموسيقى يرجع إلى الاهتمام المحلي بين الشعوب لا لرقيها لذاتها.
ا.هـ مقال شيخ الإسلام مصطفى صبري
أسأل الله العظيم أن ينفع بها, آمين.
ليست هناك تعليقات :