تسمية 1

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

حكاية إرهابي في غرفة العمليات


 


من أصعب الأمور إجراء المصالحة بين السماء والأرض ، بين توحيد الربوبية والعبودية ، بين الباطن والظاهر ، بين الاعتقاد والسلوك ، بين المصحف والواقع ، بين الدين والدنيا .
(قول غير مأثور اخترعته للتو)

- ها هو نائب التخدير الجديد !
أخطو خطواتي الأولى في ردهة العمليات في هذا المستشفى الكبير بالقاهرة حيث تسلمت عملي الجديد بعد أن غادرت مدينتي الريفية الصغيرة إلى العاصمة لكي أتعلم وأمارس المهنة التي ستكون مصدر رزقي فيما بعد . يستقبلني الجميع بابتسامات منهكة ووجوه مرهقة تدل على طبيعة المكان ونوعية العمل الذي لا يرحم ، ربنا يستر ! لا يلفت أحدٌ إلى لحيتي الصغيرة (آنذاك) ولا أقابل من الأساتذة الاستشاريين ومن زملائي النواب إلا الود واللطف ؛ فما زلت طبيبًا مبتدئًا لا يُعتمد عليه .

بعد أن خطوت خطواتي الأولى في الردهة كان لابد أن أخطو خطواتي الأولى في تعلم كيفية تخدير المرضى ، فأمسك المنظار الحنجري المستعمل في التخدير وأقلبه بين يديّ في بلاهة ..
- امسك المنظار بيدك اليسرى يا جاهل !
يقولها النائب القديم في صرامة وعيناه من فوق شاربه الكث لا توحيان باللطف إطلاقًا . يبدو أن الابتسامات الشحيحة والنظرات الودودة الخافتة قد ولّت ، وأنه على العبد الفقير أن يستعد للدخول في طاحونة العمل التي لا تعرف المزاح !
 

..........

تمضي الأيام وأتعلم بسرعة كيف أمسك المنظار الحنجري وأضع الأنبوبة وأركب الكانيولا وأعطي التخدير النصفي تحت الجافية وفوق الجافية وأشغل جهاز التخدير وأضبط إعداداته وأحسب المحاليل ..إلخ ، وصرت أعمل بكفاءة عالية كترس في هذه الماكينة التي لا تتوقف أبدًا عن الدوران ، في المرحلة الأولى تعمل بحماس بالغ وحب شديد للحرفة الجديدة ثم بعدها تعمل كآلة لا أكثر بلا حب ولا رغبة ، وتمر الأسابيع والشهور وتشرع في ممارسة نفس الأفعال التي مارسها عليك الاخرون ..
- امسك المنظار بيدك اليسرى يا جاهل !
يرفع إليّ النائب الجديد عينيه في هلع ، يالها من نظرة ! يبدو أنه يتوقع الآن أن أقول له ثكلتك أمك يا ابن أم حنظلة أو أي شيء من هذا القبيل !

يعاني السلفيون من مشكلة مزمنة ؛ وهي أن الناس تحمل انطباعًا سيئًا عنهم بأنهم أهل التعصب والتزمت والتشدد ، وأنهم أهل الغلظة والخشونة ، وأنهم أهل البداوة والتخلف - فضلاً عن تهم الإقصاء والتكفير والعنف وسفك الدماء -؛ لهذا لم أتعجب كثيرًا من تعبير البعض بعد الثورة المصرية بأن السلفيين خرجوا من "الكهف" ! فهذا التعبير يحمل دلالة لاشعورية في العقل الباطن لصاحبه عن أهل الكهف .. أقصد السلفيين . أما عندما تختلط بالناس وتتعامل معهم عن قرب وفي الأطر والحدود التي رسمها الإسلام سعيًا لتحسين الصورة الذهنية الشاذة عن السلفية والسلفيين ، تجد أن المردود ليس كما تشتهي السفن حتى قال لي البعض إني لست مثل سائر السلفيين المتعصبين ! وأنا أعلم جيدًا أني لست من المتساهلين إطلاقًا ، على الأقل في غالب أموري . وأذكر مناقشة قريبة لي مع أحد الأساتذة الجامعيين الكبار ممن يتبنون الفكر اليساري حول بعض الأحداث الجارية ومواقف السلفيين منها تكلمت فيها بتوفيق كبير جدًا من الله تعالى ، حتى أنه في نهاية المحادثة تنهد من القلب وقال : ليت كل السلفيين مثلك بهذا الاعتدال ! تغيظت جدًا من عبارته لأنها تدل على إصراره على عدم تبرئة السلفيين من التشدد . في مناقشة أخرى لي وأحد الزملاء السلفيين مع أحد أساتذتنا حول التماثيل والآثار انتهت المناقشة بقول الأستاذ الدكتور : أنتما مختلفان تمامًا عن عبد المنعم الشحات ! ولما بينّا له أن الشيخ عبد المنعم الشحات يقول بنفس كلامنا تعجب جدًا ولم يكد يصدق .

من الملحوظ أن كثيرًا من العاملين للإسلام يقعون في فخ إرضاء المخاطبين رغبة منهم في هدايتهم وتحبيب الدين إلى قلوبهم ، فتكون النتيجة هي سقوطهم في هوة التحرج من حقائق الوحي والتدسس عنها مجاملة للذوق الجماهيري الحديث ، وقد غاب عنهم أن مخالفة الهوى ليس مقصودًا به الهوى الشخصي فحسب ، بل هوى المخاطبين كذلك ، والرغبة في استمالتهم وكسب تعاطفهم ، فالضعف البشري في تأويل القرآن والسنة باتجاه رضا الناس حقيقة لا يكاد يفلت منها داعية إلى الله ، وهي الفتنة التي حذر الله نبيه منها في القرآن في مواضع عديدة ؛ فتنة استمالة المدعوين , والرضوخ لهواهم , والانصياع لضغوط مألوفاتهم , وتوجيه التعاليم الإلهية بالشكل الذي يرتاحون به ويميلون اليه .
وأحياناً كثيرة لا يقع العامل للإسلام تحت ضغط الرغبة في هداية الناس , بل يقع ضحية تحاشي السخرية والاستهزاء , والواقع أن السخرية والاستهزاء من أمضى أدوات النفوذ والتأثير على الآخرين , ذلك أنها من أشد الأمور إيلامًا لأصحاب المروءة , فتحجزهم عن كثيرٍ من المواقف تحاشيًا أن يقعوا في مثار سخرية أو موضع استخفاف .


 ............

أحسست منذ صغري وبداية نشأتي بالفرق الواضح بين كثير من المناهج الفكرية سواء الوافدة أو الأصيلة وبين الكتاب والسنة ، كنت دومًا أبحث عن هذا التطابق بين إيماني بالربوبية وظهور هذا في سلوكي دون انحراف أو زيغ ، لم تعجبني المناهج التبريرية والاعتذارية والتلفيقية التي تسلك سبيل تتبع الرخص ، ولم تعجبني المناهج غير المبنية على أساس علمي متين من الكتاب والسنة ، فضلاً عن المناهج المخالفة والمعاندة لهما . ولا أنكر أن المشوار - في بدايته - اكتنفته شبهات وشهوات ، وموانع وعقبات ، لكن عاطفتي الإيمانية وحماسي الديني في فترة المراهقة تغلبا على ما يصادف المرء في مشواره من الفتور والإحباط إذا خسر جولة أو فشل في تحقيق هدف ، وأظن أن هذا هو أكبر سبب يدفع المراهقين للالتزام الديني ، أي: العاطفة الدينية ، يساعد في ذلك أسباب أخرى تتعلق بالتربية والأصدقاء والأسرة ، بهذا الترتيب .

مرت هذه الخاطرة في ذهني وأنا أسير في ردهة العمليات ، عندما بلغ سمعي نائب التخدير الذي علمته يومًا - وصار الآن من الكبار - وهو يصيح في النائب الجديد بصوت هادر :
- امسك المنظار بيدك اليسرى يا جاهل !

وهكذا الحياة تمضي بنا من الأول للآخر ، من جيلٍ إلى جيلٍ ، وهي عامرة بالشقاء والمعاناة والكبد ، فضلاً عن الأوجاع والأسقام ، ولا يتخللها إلا ساعات أو دقائق قليلة من السعادة ، فما الفائدة من هذه الحياة ؟ وما الداعي لخوضها مع كل ما فيها من مساوئ ؟

إن للكفر والمعاصي من الآلام العاجلة الدائمة ما الله به عليم ؛ ولهذا تجد غالب هؤلاء لا يطيبون عيشهم إلا بما يزيل عقولهم ويلهي قلوبهم ، من تناول مسكر ، أو رؤية ملهٍ أو سماع مطرب ونحو ذلك .
(من كلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم)

وهذا حقيقي ؛ فكثيرٌ من الناس لا يجدون مفرًا من شقاء الدنيا وهمومها إلا في سماع الأغاني ومشاهدة الأفلام ومتابعة البرامج الفكاهية الساخرة ، وهذه كلها أشياءٌ مبنيةٌ على إلهاء المرء وتغييب عقله حتى ينسى همومه ومشاكله ، ولا تحمل في الحقيقة زادًا للنفس أو الروح يعينها على المواصلة والاستمرار ، فضلاً عن معاندة الموانع ومقاومة العقبات . لهذا السبب لا يجد المرء سعادة حقيقية ولا لذة فعلية إلا في طاعة الله والقرب منه والأنس به ، بل إن دقائق معدودة من التضرع بين يدي الله تعالى والتذلل له وانسكاب الدموع في حضرته يعطيان المرء من القوة والحماس والنشاط لمواصلة المشوار ما لا يجده أبدًا في فيلم أو مسلسل أو أغنية .

هناك 8 تعليقات :

تسمية 2

تسمية 3

تسمية 4